لطالما كانت إيران عاملاً مؤثراً في السياسات العربية، ولطالما أربكت تلك السياسات، خصوصاً في الفترة التي تلت قيام الثورة الإسلامية نهاية السبعينيات من القرن الفائت، لكن التفاعلات الإيرانية، التي جرت منذ انتخابات الثاني عشر من يونيو الجاري المثيرة للجدل، مثلت عامل إرباك قياسيا لم تسلم منه النظم العربية كلها ولا المعارضات أو الجمهور أو الإعلام.

Ad

كانت النظم العربية قبل الانتخابات منقسمة إلى قسمين رئيسين؛ أحدهما يتمنى أن يحقق نجاد الفوز، ويكرس زعامته وتحالفه مع المرشد الأعلى، ويعزز حظوظ التيار المحافظ وبعض القوى الصلبة الأخرى في نظام الجمهورية الإسلامية مثل الحرس الثوري وميليشيات «الباسيج» وغيرها، فيما كان ثانيهما يتمنى هزيمة نجاد، ووصول موسوي الأكثر قرباً من الإصلاحيين إلى الرئاسة، بما يعنيه ذلك من تخفيف حدة السياسات التي تتبعها إيران في الملفات الإقليمية والدولية، وبما يعزز فرص حل المشكلات المتصلة بها بأقل قدر ممكن من الخسائر وبعيداً عن الوسائل العسكرية التي لا يمكن حساب تداعياتها.

لكن هؤلاء الذين تمنوا فوز نجاد، أصيبوا بالإحباط لأن هذا الفوز أتى مشبوهاً ومشكوكاً في نزاهته، كما أنهم لم يتمكنوا أبداً من الاحتفال، لأن شرعية هذا الفوز تكاد تكون معلقة حتى وقتنا هذا، رغم محاولات المرشد العديدة لتثبيتها واعتمادها اعتماداً نهائياً، كما أن الرتق في تلك الشرعية يبدو آخذاً في الاتساع، ليضم، إلى جانب آلاف المتظاهرين في الشوارع والناشطين السياسيين والمدونين ومستخدمي الإنترنت، ضباطاً وقيادات دينية ونواباً بالبرلمان وبعض أركان النظام.

وفي المقابل، كان هناك من يدعم موسوي بشدة، ويتمنى له الفوز ليخفف بعض الضغوط التي فاقمتها ولاية نجاد الأولى، وهؤلاء بالطبع يمثلون أنظمة عربية تصنف على أنها معتدلة، وتدعو تلك الأنظمة إلى تقليل التدخل الإيراني في الأراضي الفلسطينية ولبنان وإلى فك عرى التحالف السوري-الإيراني وتفكيك بعض الجيوب الإيرانية في عدد آخر من الدول والقضايا العربية، خصوصاً في ما يتعلق بمسائل الأقليات الشيعية.

وقد حدث الإرباك كذلك لتلك النظم لأسباب عديدة؛ أولها أن موسوي لم ينجح في الانتخابات كما تمنت، وأن تلك الانتخابات شهدت مشاركة واسعة فاقت الـ80%، وهو دليل عافية للنظام الإيراني في حد ذاته، وثانيها أن موسوي لجأ، وأنصاره، إلى الشارع مستخدمين أساليب احتجاج مختلفة أحرجت النظام الإيراني وكشفت ضعفه أمام العالم.

وكما كانت نظم وجماعات محور الممانعة العربي مأخوذة بالتشكيك الكبير في فوز نجاد، وظهوره في مظهر الرئيس الشمولي الذي يستخدم مقدرات الدولة للحفاظ على منصبه من دون التفات للرغبات الشعبية والشرعية والنزاهة المفترضة في زعيم يطرح نفسه محارباً لقوى الشر والاستكبار ومدافعاً عن الأحرار والضعفاء، كانت أيضاً نظم وجماعات محور الاعتدال مأزومة لأنها قد تضطر إلى مساندة احتجاجات موسوي على نتائج الانتخابات واندفاع أنصاره إلى الشوارع ومقارعة قوى الأمن.

حالة من الارتباك المزدوج وقعت فيها النظم العربية؛ فلا نظم الممانعة قادرة على مساندة زعيم بنى مجده على مصارعة القهر والانتصار للشارع، فانتهى إلى دكتاتورية فاشية تزور إرادة الجماهير وتقمعها إذا هي احتجت، ولا نظم الاعتدال قادرة على مساندة معارض يحتج على تزوير الانتخابات وقمع الإرادة الشعبية وتزييف إرادة الجماهير؛ خصوصاً أن قسماً منها لا يعترف بالانتخابات أساساً، ومعظمها يزور تلك الانتخابات تزويراً فاضحاً، وبعضها الآخر لا يسمح للمعارضة بالظهور في الشارع فضلاً عن إبداء مظاهر الاحتجاج.

الارتباك ذاته امتد إلى قوى المعارضة العربية. من منا لا يريد أن يعرف تقييماً لـ«حزب الله» اللبناني لما يجري في إيران؟ لسنوات طويلة ظل «حزب الله» يتصرف على أنه معارضة وطنية شريفة تصمد تجاه ضغوط من حكم ليس فوق مستوى الشبهات. ولسنوات طويلة كان «حزب الله» يعتقد ويعلن أن نظام الجمهورية الإسلامية والقدرات الإيرانية والدعم القادم من طهران هو السند الرئيس والداعم الأكبر لنضال الحزب وصموده. كثيراً ما خرجت مظاهرات الحزب إلى شوارع لبنان، وكثيراً ما استخدم الحزب اللافتات والأعلام، وسخر التكنولوجيا والإنترنت والإعلام لحمل رسائله ومساندة قضاياه، وكثيراً ما نصب الاعتصامات وأقام الاحتجاجات وعطل المؤسسات، قبل أن تعود عناصره إلى قواعدها إثر التفاوض والوصول إلى الحلول المرضية، فكيف سيكون رأي الحزب الآن بخصوص هؤلاء المعارضين الإيرانيين الذين يضربون حتى الموت في شوارع طهران، لأنهم فقط خرجوا يعبرون عن رأيهم في الانتخابات، ويطلبون فقط إعادتها، وتخليصها من التزوير.

الإرباك أيضاً يطول «الإخوان المسلمين»، فلقد أمضوا عقوداً في النضال ضد سطوة السلطة في مصر وقمعها الدائم لهم ومنعها إياهم من ترخيص حزب سياسي يكفل لهم القدرة على المشاركة في الحياة السياسية بفرص وحظوظ متكافئة. «الإخوان» نظروا دوماً إلى النظام الإيراني على أنه سند وداعم وربما عمق استراتيجي لحركتهم ونضالهم، ورغم التباين الذي يظهر في تمثيلهم للإسلام السياسي السني في وقت يمثل فيه نظام طهران الإسلام السياسي الشيعي، فإنهم وجدوا في فكرة الأسلمة ذاتها ومعارضة الولايات المتحدة والعداء الظاهر للدولة العبرية والخصومة مع بعض الأنظمة العربية مجالات للاتفاق والتعاون. فكيف يرى «الإخوان» ما يجري الآن في إيران، خصوصاً أن ما يفعله النظام الذي يقوده المرشد ونجاد بالمعارضين يكاد يكون صورة طبق الأصل مما يفعله النظام المصري بهم؟ وكيف يخرج «الإخوان» من هذا المأزق؟ فهم غير قادرين على تأييد النظام الذي دأب على دعم قضاياهم لأنه يمارس القمع ويحتقر إرادة الجمهور، كما أنهم غير قادرين على التخلي عن المعارضة الإيرانية وأتباع موسوي لأنهم يبحثون عن حريتهم ويطالبون بالانتخابات النزيهة، وهو الأمر الذي يتسق مع مطالبهم على مر العقود الفائتة.

الارتباك أيضاً طال نوعاً من المعارضة العربية ذات المرجعية القومية، لأن تلك المعارضة كانت تعتبر العداء الذي يظهره نجاد لإسرائيل انعكاساً لمد شعبي إسلامي في الجمهورية الإيرانية يعبر عنه هذا الرئيس المنتخب ويترجمه بأمانة، فإذا هي تقع في فخ محكم عندما شكك الجمهور الإيراني في هذا التفويض، وعندما ظهر نجاد كأي زعيم عربي آخر ادعى القومية والعداء لإسرائيل ووعد بتحرير القدس ليغطي على دكتاتوريته وفشله الداخلي وفساده وقمعه لمناوئيه وخصومه.

وكما وقعت النظم والمعارضات في الإرباك على خلفية الأحداث المتصاعدة في إيران، وقع الجمهور والإعلام في الإرباك ذاته. والواقع أن العديد من أسباب هذا الإرباك تعود إلى درامية الأحداث التي شهدتها إيران أخيراً، وصعوبة التكهن بما ستفضي إليه، لكن ثمة سبباً مهماً آخر يفسر حال الإرباك تلك تفسيراً وجيهاً، وهو السبب المتعلق بالاعتوارات التي يعانيها النظام العربي ونخبه وجماعاته المعارضة وإعلامه وجمهوره.

فالنظم التي لا تقيم للديمقراطية وزناً، ولا تعترف بالانتخابات، أو تجريها وتزورها، ستظل مرتبكة إزاء أي تفاعلات ديمقراطية تحصل في الجوار، وسوف تكون عاجزة عن الانحياز إلى أي خيار ديمقراطي يجري في أي بقعة من العالم حتى لو كان يتسق مع مصالحها الوطنية، لأن بقاءها بمعزل عن احتمالات التغيير التي تأتي بها الديمقراطية أهم لديها من المصلحة الوطنية أحياناً.

والمعارضة التي لا تؤمن في حقيقتها بالديمقراطية، وتتخذها مطية للوصول إلى أغراضها في الحكم قبل أن تنقلب عليها، لن تجد نفسها قادرة على نقد السلوك الحكومي القمعي بحق الجمهور، طالما كان هذا الجمهور لا يهتف بشعاراتها ولا ينطلق من منطلقاتها.

ويبقى أخيراً أن بعض الإعلام العربي وقف مشدوهاً متدثراً بالحياد، وأن بعضه الآخر اندفع في تجريح كل ما يحدث في إيران، وانتقاد قمع المعارضة وتغييب الديمقراطية، من دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى حال الديمقراطية في بلاده وأوضاع المعارضين والمحتجين بها.

* كاتب مصري

 

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء