ما الذي يفكِّرُ فيه المَنفيّ وهو عائد إلى وطنه؟... أعني ما الذي يجول في تفكيره بالتحديد، بعد نفي وغياب يمتد أكثر من ثلاثين عاماً؟ ما الذي يتوقعه المرء هناك في تلك الزاوية الآخرى من العالم، ذلك المكان الذي يشكل جزءاً من طفولة وصبا وشباب المنفي؟

Ad

أسئلة أجوبتها تكاد تكون مستحيلة، ثم ما هي العودة؟ أهي عودة الغائب، أم عودة إلى الطفولة والصبا، أم عودة الى خراب صنعه طاغية أكثر شراسة من الشرّ ذاته. ما الذي يبقى من العودة؟ أليس ارتباكة العودة ذاتها، وما تحمله من لهب وارتعاشة، ما تحمله من غبار المنافي والشقاء الداخلي. تلك الجذوة الصغيرة التي ظلت طوال سنوات تعذب روح المنفي.

إن مشهد اللقاء بأرض كانت ذات يوم لؤلؤة مستحيلة، وحلماً بعيد المنال أصبح اليوم واقعاً، لكنه واقع ممزوج بالمرارة والقسوة والألم.

كان إدوارد سعيد من المثقفين القلائل الذين لامسوا جرح المنفى، وقدم في كتابه «تأملات في المنفى» نظرات ثاقبة وأسئلة غاية في الدقة، معتبراً أن المنفى يشكل في «جوهره حالة متقطعة عن حالات الكينونة»، وهو «الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي». على أن إدوارد سعيد كان يؤكد الدوام على ضرورة الاستفادة القصوى من ذلك اللمعان الذي يشحن المنفي بطاقة خلاقة للإبداع والابتكار، أي إيجاد وخلق تلك المعاني والتصورات الايجابية، لإضاءة الروح بقيم انسانية منفتحة.

لقد شهد العالم تجارب مريرة وقاسية في ما يتعلق بالمنفى، بما في ذلك التجربة الألمانية، سنوات الرايخ الثالث، وقد توزّع الكتّاب والمثقفون الألمان في المنافي الأوروبية والأميركية. والتجربة الإسبانية سنوات فرانكو، والتجربة التشيلية بعد الانقلاب الدموي على سلفادور أللندي، دون أن ننسى بالطبع فلسطين، ذات الطابع الخاص باعتبارها أرضاً محتلة أصلاً. لقد ألتقيت في نيويورك المخرج السينمائي التشيلي البارز راؤول رويز. وقد تحدثت معه تماماً حول تجربة المنفى التشيلية، وكنت على علم بكتّاب ومثقفين وسينمائيين، عاشوا في المنافي في أقصى بلدان العالم، لكن رويز المقيم حين ذاك في فرنسا ولايزال على ما اعتقد، ـ فقد كان عضواً في تحكيم مهرجان كان السينمائي في واحدة من دوراته ـ حدثني بشغف عن تجارب هؤلاء الكتّاب والفنانين، وكان صديقه السينمائي ميجيل ليتين الذي كتب عنه جاريسيا ماركيز كتاباً كاملاً حول عودته السرية -هو المحكوم عليه بالإعدام- لكن المنظمة تنظيماً دقيقاً الى تشيلي والى قصر الدكتاتور تحديداً متنكراً بهيئة عامل كهرباء، وخرج من ذلك القصر العجيب دون أن يكتشفه أحد، بفيلم يحكي عن مغامرته الجريئة هذه. وقد ظهرت في تلك الفترة تجربة أدب المنفى التشيلية وكانت الأدبيات واضحة في هذا المجال. كان رويز نفسه قد حقق مجموعة من الأفلام التي تتحدث عن فكرة المنفى هذه بشاعرية نادرة في السينما، خصوصاً في فيلمه (ثلاثة قروش من أجل بحار).

لقد أثيرت في السنوات الأخيرة تجربة «أدب المنفى» في الأدبيات العراقية والعربية، وأزعم بأنني كنتُ واحداً ممن تلمسوا هذه التجربة مبكراً، وقد ناقشتها مع عدد من أصدقائي الكتّاب والمثقفين العراقيين، ورغم انني لا أتحدث هنا عن حكم قيمة ذي طابع معياري، فإنني أميل الى اعتبار التجارب الواسعة في الكتابة الشعرية والقصصية والروائية، والمسرح والتشكيل، وحتى الابحاث -هذا الانتاج الكبير- يشكل مفصلاً وزخماً حقيقياً في التجربة العراقية بشكل خاص والعربية على نحو أعم. ولأنني كنت قد أشرت الى المنافي عند شعوب أخرى، فلأن التجربة العراقية على الصعيد العربي، والعالمي واحدة من أقسى التجارب في هذا المجال والتي خبرتها عن قرب ورغم ما يظهر أحياناً من لبسٍ -على الصعيد الثقافي والسياسي- إذ ان من المعروف أن بعض واقول بعض الكتّاب والمثقفين العراقيين، أرادوا الإمساك بالمجد من طرفيه، اعني مجد تمجيد السلطة، ومجد المنفى، وهذا أمر بات مفضوحاً، وينبغي الّا يشكل أهمية، حقيقية في المسار العام للتجربة العراقية.