إذا كان الملك عبدالله قد جاء إلى البحرين ليطل من خلالها وعن طريقها، على منطقة الخليج العربي بأسرها، عاملاً في سبيل تلاحم مجلس التعاون الذي تمثل البحرين قلبه ونبضه، فإنه قد أكمل ما دعا إليه في قمة الكويت الاقتصادية على الصعيد العربي الشامل.

Ad

زيارة الملك عبدالله إلى البحرين زيارة تاريخ، وليست زيارة راهنة، لذلك فالكتابة عنها لا ترتبط بزمن، ويتضح أمام المراقبين شيئاً فشيئاً أن الملك عبدالله يتبع نهجاً طويل النفس لترميم ما يريد ترميمه أو إعادة بنائه من أوضاع، فدعوته إلى إحياء التضامن العربي في قمة الكويت الاقتصادية- مثلاً- لاتزال دعوة مطروحة، والدبلوماسية السعودية والعربية مازالت تعمل باتجاه تحقيق ما رمت إليه من أهداف ورؤى.

والزيارة التاريخية التي قام بها الملك عبدالله إلى البحرين لا تهدف إلى معالجة مسائل شائكة بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، فليس ثمة مسائل شائكة بينهما، وكما لاحظت صحيفة «اليمامة» السعودية في تعليقها على الزيارة، فإن التفاوت الهائل في المساحة والحجم والدخل بينهما كان يمكن أن يخلق سوء فهم بين البلدين كما في حالات أخرى، غير أن العلاقات السعودية البحرينية لم تشبها شائبة، وظلت «سمناً على عسل» طوال التاريخ، منذ أن كان الملك المؤسس عبدالعزيز يزور البحرين رغم تأثير الوجود الأجنبي وعرقلاته في المنطقة، ويلتقي بحاكمها الجليل الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، الذي كان بمنزلة الأب لقادة الخليج والجزيرة العربية كلها، كما كان يلتقي بأبنائه وفي مقدمتهم الشيخ حمد بن عيسى الذي كان يلتقيه في قصر الصخير، حيث تم اللقاء أخيراً بين الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البحرين، والملك عبدالله بن عبدالعزيز، حيث تسلم منه «السـيف الأجـرب»، ومازالت الكلمة التي قالها الملك عبدالعزيـز في الصخير «القلوب مجتمعة» تجد صداها في اللقاءات السعودية البحرينية المتتالية، خصوصاً كلمة الملك عبدالله التي قال فيها في رده على كلمة الملك حمد بن عيسى، «بأننا نريد أن يفهم الآخر بأننا وطن واحد في السراء والضراء».

ولـ»السيف الأجرب» قصة تاريخية شائقة ورد ملخصها في خطاب الملك حمد بن عيسى عندما قدم السيف التاريخي لخادم الحرمين الشريفين، ثم دخل الشعر المعمعة، وكانت أبرز قصيدة للشاعر السعودي العربي الكبير غازي بن عبدالرحمن القصيبي «أمير السيوف» التي نشرتها في حينه صحف سعودية والصحف البحرينية.

ونعتقد أنه إذا كانت تلك الإشارة السعودية الدالة متعلقة بالبحرين في التأكيد على «وحدة الوطن»، بحكم المناسبة، فإن هذه الإيماءة السياسية السعودية تشمل دول مجلس التعاون الخليجي كلها الذي تمثل السعودية عمقه الاستراتيجي وستحتضن قمته التشاورية بعد أيام في الرياض.

وتأتي مبادرة الملك عبدالله بتأسيس المدينة الطبية في البحرين من خلال جامعة الخليج العربي لتعطي زيارته بعدها الخليجي الشامل انطلاقاً من البحرين، ويصعب على المراقبين ملاحقة التطورات المتسارعة التي يقودها الملك عبدالله رغم نهجه التاريخي المتأني، إذْ يُقصد بهذه التطورات أن تصب في الاتجاه المراد تحقيقه، وأن تعززه تدريجاً إلى أن يصبح أمراً واقعاً لا رجعة عنه.

لهذا تتصاعد شعبية هذا القائد العربي، وعندما قام بزيارته إلى البحرين كانت شعبيته في تصاعد، إلا أنها بعد ذلك وخلال فترة وجيزة قفزت قفزات لا يمكن أن تحدث لقائد آخر، فقد شهدنا بعدها تدشيناً للترجمة العربية لكتاب «ملك نحبه» الذي قام بتدشينه الدكتور خالد العنقري وزير التعليم العالي السعودي أثناء زيارته العلمية إلى النمسا، ويخطئ من يتصور أن ذلك من أعمال الدعاية الرسمية، إنه تعبير حقيقي عن شعور الناس تجاه هذا القائد المصلح، ويأتي مشروع حدائق الملك عبدالله العالمية في مدينة الرياض انعكاساً لتوجه الحكم السعودي الراهن إلى تحسين نمط الحياة في قلب نجد وإفساح المجال للعائلات السعودية، رجالاً ونساءً وأطفالاً، لكي تحيا كغيرها في العواصم الإنسانية الأخرى، ومشروع الحدائق العالمية، من ناحية أخرى، يمكن النظر- رمزياً- إليه كتعبير عن الانفتاح الفكري والنفسي والحضاري الذي يقوده الملك من أجل شعبه الذي صار يمتلك من معطيات التقدم والتطور ما يؤهله لمثل هذه المشروعات الجديدة.

ويدرك الملك عبدالله بحكم نهجه الواقعي أن الصورة ليست كلها وردية، وأن للتقدم ثمنه، وأنه لابد من غرس البذرة وانتظارها، والسهر عليها من أجل أن تثمر وتزدهر، ويذكر كاتب هذه السطور، أن عبدالله بن عبدالعزيز، قبل ربع قرن، قد وجه بحوارات الجنادرية التي كان يسهر على تنظيمها بكل دأب رجل عربي مخلص فقدته أمته وعوضها الله بأبنائه وهو المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري.

وأن تلك الحوارات غير المسبوقة في بيئتها السعودية قد مهدت الطريق لحوارات اليوم الوطنية الفكرية التي صارت منطلقاً للإصلاح والتطور، وهكذا لبنة فوق لبنة عبر سنين طويلة إلى أن يقترب الهدف المراد تحقيقه.

وهذا هو جوهر «النهج السعودي» منذ أن بدأت الدولة السعودية، لقد احتاج الملك المؤسس الوالد عبدالعزيز نصف قرن أو أكثر، بعد أن استرجع ملك آبائه عام 1902 حتى توفي 1953، إلى أن يؤسس الدولة ويوطد أركانها ويدخل إلى مؤسساتها ما كانت تحتاج إليه من إصلاح وتحديث وتطوير، وكان يتحمل في سبيل ذلك مخالفة، بل مواجهة، الأعوان والإخوان والرفاق إذا خالفوه وتمسكوا بما هو «قبل الدولة» أو بما «دونها».

وقد تصور بعض المسنين السعوديين أن هذه الدولة قد تضعضعت بوفاة ملكها المؤسس فلجؤوا إلى أسلحتهم لحماية أمنهم، لكنهم سرعان ما اكتشفوا استمرارها من بعده في أبنائه.

وفي تقديري، أن الملك عبدالله يتبع هذا النهج في البناء المتدرج مع الأخذ في الاعتبار ضغط الزمن والظروف وتوقعات شعبه في سبيل ما يطمح إليه.

وإذا كان الملك عبدالله قد جاء إلى البحرين ليطل من خلالها وعن طريقها، على منطقة الخليج العربي بأسرها، عاملاً في سبيل تلاحم مجلس التعاون الذي تمثل البحرين قلبه ونبضه، فإنه قد أكمل ما دعا إليه في قمة الكويت الاقتصادية على الصعيد العربي الشامل، نقول قد أكمل دعوته إلى إحياء التضامن الخليجي والعربي وتعزيزه بما تتطلبه حركة العصر وضغوط الزمن والتحديات الماثلة، وهي ليست بالقليلة.

وفي اعتقادي أن البحرين ستبقى المحطة الطبيعية لتطوير حوار الأديان الذي بادر إليه الملك عبدالله، إلى أن أوصله إلى الأمم المتحدة، وعلى مستوى القادة، وذلك بحكم كونها على مرمى حجر من «الداخل» السعودي وانفتاحها التاريخي على الأديان والعقائد والأفكار المختلفة، وذلك ما كرسه ملكها حمد بن عيسى آل خليفة من خلال مشروعه الإصلاحي الذي يتكامل مع إصلاحات الملك عبدالله بن عبدالعزيز في المنطقة الخليجية والعربية.

* مفكر من البحرين