ذات يوم... عاد الجنرال إلى منزله مبكرا على غير العادة، كان محبطا ويائسا وغاضبا، يكلم نفسه، ويشتم كل ما تراه عيناه، توجه مباشرة إلى غرفة نومه ليبكي وحده هناك، وما هي إلا لحظات حتى سمعت زوجته صوت نحيبه فأقبلت مذعورة تسأله عما حدث؟ ولماذا يبكي بهذا الشكل؟

Ad

قال لها بصوت مرتعش: جلالة الإمبراطور وقع اليوم مرسوما بإحالتي إلى التقاعد، لقد طردت اليوم من منصبي في الأمن العام شر طردة، وتم الاستغناء عن خدماتي دون كلمة شكر واحدة، مع أنني لم أرتكب ذنبا واحدا، وكنت مخلصا طوال فترة عملي الطويلة، لم أسرق، لم أظلم، لم أزور، لم أعذب أحدا كما يفعل غيري، وسمعتي ناصعة بشهادة كل من عمل معي، وقبل هذا وذاك، أنا رجل مؤمن صادق أخشى الله في كل صغيرة وكبيرة، وملتزم بفروضي الدينية!

والغريب... أن زملائي في العمل ممن عرف عنهم أنهم لصوص وظلمة وفاسدون، بقوا جميعا في مناصبهم، بل بعضهم تمت ترقيته ومكافأته على ما يقوم به من بطش وظلم وتلفيق التهم للأبرياء والمظلومين... كيف يسمح الله بأن يُظلَم عبده المؤمن الصالح ويُكافَأ الفاسق الفاسد على شر أعماله، أين العدل في كل هذا؟ وما فائدة صلاتي وصيامي وقيامي إن كان هذا جزائي؟!

قالت له زوجته: لا تحزن يا حبيبي، لابد أن لهذا الأمر حكمة إلهية، لعله أراد أن يلقي بك بعيدا عن هذه السلطة الفاسدة، من يعلم ماذا سيحدث في الغد، وما يدريك لعل زلزالا يقع فيتسبب في وقوع مبنى الأمن العام، وتنهار كل المكاتب فيه، فيموت كل من في المبنى وتنجو وحدك لأنك أقلت اليوم!

نظر الجنرال بغضب إلى زوجته طويلا ثم قال: أنا الغلطان... وأنتِ معذورة على افتراضك الساذج هذا، ما أنت إلا امرأة جاهلة لا تعرف كيف تواسي زوجها! مكاتب الأمن العام مبنية بالحديد والإسمنت المسلح، تصمد أمام أعتى الزلازل، بل تصمد حتى في وجه القنابل الذرية، وإن فيها مخابئ تحت الأرض محصنة تحصينا مذهلا، لقد أنفقوا من أجل تحصينها ما لا يعد ولا يحصى من الملايين، ولو حدث ووقعت العاصمة كلها في يد العدو، فستبقى إدارة الأمن العام قلعة حصينة لا يمسسها أذى، ابحثى لي عن حكمة غير هذه يا حكيمة الزمان!

مرت الأيام طويلة ثقيلة... والجنرال يندب حظه التعس ويشكو قلة حيلته للشجر والحجر، منتظرا اليوم الذي سيطلب منه العودة للعمل مرة أخرى لحاجة الأمن الماسة لجنرال شريف أمين مثله، هكذا كان يحلم ويتخيل ويتصور، لكن دون جدوى، فالأمور بقيت على ما هي عليه، ولا أحد في الأمن العام عاد يتذكره!

ثم فجأة ودون مقدمات، قامت الثورة، وهاجمت الجموع الثائرة الهائجة قلعة الأمن العام الحصينة التي تصمد أمام الزلازل والقنابل الذرية، واقتحم الثوار الغاضبون الأبواب الحديدية والأسلاك الشائكة لينتزعوا من القلعة كل الرؤوس الكبيرة فيها، ليحطموها واحدة واحدة بالعصي والأحجار والفؤوس وكل ما طالته أيديهم جزاء بما ارتكبت من ظلم وجور وأذى طوال فترة حكم الإمبراطور الفاسد!

وأدرك الجنرال يومها أن زوجته ليست جاهلة كما كان يظن، وأنها كانت على حق حين توقعت أن الله ربما أراد أن ينجيه من الكارثة القادمة، وأن من كان يحسدهم على بقائهم في السلطة لقوا مصيرهم ومصير كل ظالم يغتر بما بين يديه من قوة يستغلها في البطش بالناس، وأكل حقوقهم بالباطل!

فإذا ما ابتليت يوما- عزيزي القارئ- بمصيبة، أو ظلم، فلا تيأس ولا تقنط، فلعل الأمور تؤول لمصلحتك بعد حين، ولعل هذه المصيبة هي سبيلك الوحيد للنجاة وأنت لا تعلم، وعسى أن تكره شيئا وهو خير لك!

***

ذكر الراحل مصطفى أمين هذه الحكاية في كتابه 200 فكرة، وهي حكاية حقيقية حدثت في نهاية حكم الشاه، وبداية الثورة الإيرانية... منقولة بتصرف كبير.

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة