آخر حصون الرجال
![د. عبدالحميد الأنصاري](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1555928789945225900/1555928807000/1280x960.jpg)
هل جرّب أحدنا مشاعر هؤلاء؟ أتصور أنها مشاعر محبطة، أدناها الإحساس بالظلم والمرارة والنقمة وأعلاها الشعور بالنبذ والكراهية وضعف الدافعية وانعدام الأمل في تصحيح أوضاعهم، وقد تصل هذه المشاعر إلى التمرد والهجرة من الوطن... وقديماً قال الشاعر العربي: لا أذود الطير عن شجر*** قد بلوت المر من ثمره. وقال أبوفراس: إذا مت ظمآن فلا نزل القطر.ولا نستطيع أن نلوم هؤلاء الأبناء فهذا شعور طبيعي لكل من يعاني وضعاً ظالماً لا ذنب له فيه، دعونا نتساءل: بأي حق أو منطق أو مبرر يحتكر الرجل وحده رابطة الجنسية وينقلها إلى أولاده بينما تحرم المرأة الأم؟ وما حجج حراس التمييز الجنسي ودعاة التفرقة؟! ولماذا تتخلف تشريعاتنا عن التطور الحديث لقوانين الجنسية في العالم؟! ولماذا لا تواكب تشريعاتنا الانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تشهده مجتمعاتنا؟ ولماذا لا تعكس تشريعاتنا تطور وضعية المرأة العربية وتزايد دورها في مجتمعاتنا؟ ولماذا تخالف تشريعاتنا المواثيق العالمية كافة واتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة؟!هذه التساؤلات الملحّة وغيرها تطرح دائماً عبر المؤتمرات والمنتديات كافة المعنية بقضايا المرأة وحقوق الإنسان، ولا تجد إجابات شافية أو مقنعة، وهناك من يتذرع بالدين كمستند لحرمان المرأة من هذا الحق، فيقولون إن الأب هو صاحب الولاية "الرجال قوامون على النساء"، وهو المكلف بالإنفاق والأبناء ينسبون إليه، ولكن هذه حجة متهافتة، فكون الأب هو صاحب الولاية وينسب إليه الأولاد، فهذا أمر تنظمه قواعد الشريعة، أما الجنسية فهي رابطة قانونية وسياسية تنشئ حقوقاً وواجبات متبادلة بين الفرد والدولة، تنظمها تشريعات حديثة، ولا علاقة بينهما كما لا يوجد في الشريعة ما يمنع الأم من منح جنسيتها لأولادها طالما أن النسب ثابت للأب، بل إن الشريعة وأقوال الفقهاء مع تبعية الطفل لأمه، خصوصاً في ولاية التربية والحضانة والكفالة، إذ هي أقوى من تبعيته للأب، وهناك من الفقهاء من يرى أن مسلك المشرع العربي في حرمان الطفل من جنسية أمه مخالف للشريعة ومخالف للحديث "من فرّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" صححه الألباني، وهناك القانونيون الذين يدافعون عن التفرقة الجنسية ويقولون إن تشريعاتنا اعتمدت "حق الدم" أو "معيار الدم" أساساً في نقل الجنسية، حسناً ليكن "معيار الدم" أساساً، ولكن لماذا تقصرونه على الأب وحده؟! من قال إن دور الأم أقل من دور الأب في رابطة الدم؟ إن تشريعات العالم المتحضر اعتمدت أيضاً (معيار الدم)، لكنها جعلت منه حقاً مشتركاً للأبوين، ألا يدركون أن دور الأم أعظم؟ أليست هي التي ترضع مشاعر الولاء والانتماء وحب الوطن؟ أليست هي التي تنقل الموروث الثقافي إلى أطفالها؟ اسألوا خبراء العلم والبيولوجيا وعلم التربية! نتغنى كثيراً بمكانة الأم وفضلها ونعيد ونكرر كيف كرّم الإسلام الأم وجعل الجنة تحت قدميها وأوجب البر بها، ومع ذلك نحرمها من حق طبيعي تمارسه سائر نساء الأرض!هناك من يسوق دواعي المصلحة العامة ومخاوف حول التركيبة السكانية، لكن العكس هو الصحيح لأن المصلحة الوطنية ومقتضيات الأمن الاجتماعي ومتطلبات تصحيح الخلل السكاني في الخليج تتطلب ضرورة استيعاب المجتمع الخليجي أولاد الأم الخليجية بـإضفاء صفة المواطنة عليهم استناداً إلى وطنية أمهم، فالأولاد يتلقون عن أمهم مشاعر الولاء وحب الوطن... وانتقال جنسية الأم إليهم كفيل بترسيخ عوامل الانتماء لديهم، وإذا كانت الدولة الخليجية تمنح جنسيتها لأفراد لا ينتمون إليها، بل لمجرد أنهم قدموا خدمات جليلة للدولة أو لأنهم أقاموا مدة محددة، فمن باب أولى تجنيس أبناء الأم المواطنة، فهم أكثر انتماءً وولاءً إلى الدولة التي ولدوا على أرضها وعاشوا تحت سمائها وغذتهم والدتهم بشعور الانتماء كما يقول د. عادل الطبطبائي.وإذا كانت دول الخليج تسعى إلى زيادة عدد المواطنين لديها "كونهم أقلية"، فإن تجنيس أبناء الأم المواطنة وزوجها غير المواطن، هو الرافد السكاني الأنسب والأثمن لزيادة عدد المواطنين، فهؤلاء عنصر استقرار لا عنصر هجرة، المبررات التي يسوقها البعض لاستدامة هذه التفرقة الجنسية المعيبة في التشريعات العربية عامة والتشريعات الخليجية خصوصا، مبررات متناقضة ولا تصمد للنقاش ولا تصلح حججاً للدفاع عن هذه الظاهرة التمييزية الممارسة ضد المرأة، إذن فلماذا يدافع هؤلاء؟!في تصوري أن دفاع هؤلاء عن بقاء هذا الوضع التمييزي، هو مجرد دفاع عن آخر حصن للرجال لم تخترقه المرأة العربية بعد، إن المرأة العربية المعاصرة غزت معاقل الرجال كافة، واقتحمت جميع التحصينات التي كانت حكراً على الرجال، فأصبحت نائبة في البرلمان، ونافست الرجل في الانتخابات العامة، وزاحمته على المناصب القيادية التي اعتبرها الفقهاء "ولايات عامة" قصرتها الشريعة على الرجال، فأصبحت المرأة العربية، وزيرة في الحكومة، واخترقت السلك القضائي وصارت قاضية، وفي ميادين التعليم أصبحت مديرة جامعة وعميدة كلية، وهكذا في المناصب القيادية كافة، ولم يبق للرجل إلا آخر معاقله وهو معقل "الجنسية" كحق سيادي خاص به، وهو سيحامي عن هذا الحصن، ولن يستسلم أمام التطورات العالمية والمحلية الضاغطة لإنصاف المرأة ومساواتها بالرجل في حق نقل الجنسية إلى الأولاد.التشريعات العربية المتعلقة بالجنسية مخالفة للمواثيق الدولية كافة الخاصة بحقوق الإنسان، وهي أيضاً مناقضة لاتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة التي وقعتها معظم الدول العربية، وهي تقرر صراحة في المادة (9) بند (2): "تمنح الدول الأطراف، النساء، حقاً مساوياً لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية الأطفال"، وفضلاً عن ذلك فهذه التشريعات مخالفة أيضاً لـدساتير الدول العربية نفسها، ومن المفارقات الشاذة في قوانين الجنسية العربية، أن الأبناء "غير الشرعيين" يمنحون الجنسية الوطنية بينما الأبناء "الشرعيون" للأم المواطنة يحرمون منها! والأعجب أن بعض القوانين الخليجية تشترط لمنح أبناء المواطنة الجنسية، أن يكون والدهم الأجنبي قد طلّق أمهم طلاقاً بائناً وترك البلاد، أو أن يكون قد توفي! فهل هذا معقول؟! وهل يكون الحل أن ينتظر الأبناء طلاق أمهم أو موت أبيهم حتى يصبحوا مواطنين؟! ولماذا يضار الإنسان من واقعة ليس له؟ إننا نأمل في ضوء انفتاح مجتمعاتنا وسرعة تطورها في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية كافة، أن تتطور تشريعاتنا لتكون أكثر إنصافاً للمرأة، خصوصاً أن المرأة الخليجية المعاصرة هي التي تتحمل العبء الأكبر في جهود التنمية، فالمرأة الخليجية تستحق هذا التكريم، كما أن الاعتراف بحقها في نقل رابطة الجنسية إلى أولادها، نوع من التكريم الواجب لها.* كاتب قطري