يوم كان الكتاب!
الكتاب الإلكتروني يزاحم الكتاب الورقي.
في الأيام الخوالي كان الكتاب المستعمل في لندن يزاحم الكتاب الجديد، أتذكر ذلك بوضوح، حين جئت المدينةَ في مطلع 1979. شارع charing cross، الممتد من شارع أكسفورد حتى ساحة الطرف الأغر، كان حاضنة الكتب المستعملة. عشرات المكتبات، تطرح بضاعتها وراء الزجاج، في الواجهة، وفي الداخل تكون في طابقين، الأرضي والسفلي، وعادة ما تكون مزينة بصور فوتوغرافية لكتّاب زائرين، بهيئة بائسة، مبعثرة كالعادة، ثم أن الطابق السُفلي عادة ما يتميز برائحة هواء رطب، فاسد، الأمر الذي أربك ذائقتي بشأن رائحة الكتب، التي اعتدتها في مكتبات شارع المتنبي، وسوق السراي في بغداد، عبقةً برائحة الورق المتميزة، المحببة.كنت أعرف أن العلّةَ في شحّة الشمس هنا، وفيضِها هناك، لكني احتجت سنواتٍ، محمولاً بعشق الكتاب، لأتقبّل الخصيصة الجديدة، فأصبر جذِلاً في السراديب، منتظراً العنوان المفاجئ.شارعُ المكتبات هذا يضم أهم المكتبات الكبرى أيضاً، مثل Foyles Borders، وBlackwells. رائحة كتبها الجديدة، والتوزيع البارع للتخصصات والرفوف، يشعرانك برقة الكتاب، ورغبته في الإغواء، حتى لتبدو إزاءه متعالياً، على عكس الكتاب الرطب الفاسد في مكتبات الكتب المستعملة، الذي تجيئه سعياً من دون إغواء، وهو راقد بحكمة العمر، غير مبالٍ بك، ولا بقدرتك الشرائية.في المكتبات الكبرى لك أن تنتقي الكتاب رغبةً في اختباره، وتأخذ مقعداً وثيراً في ركن هادئ، وتنصرف للقراءة ساعات، إن أردت، من دون تطفل من أحد، بل استحدثتْ هذه المكتبات الكبرى سبلاً جديدة للضيافة، بأن فتحت مقهى كبيراً داخلها، تنتقي المجلات والكتب التي تريد، وتجلس في ركن فيها، مع قدح شاي ساعاتٍ تقرأ، وإذ تنصرف، اشتريت حاجتك أو لم تشترِ، تترك المجلات والكتب على الطاولة لعمال المكتبة، وتغادر.ولهذه المكتبات الكبرى أنشطة ثقافية لا تتوقف عند حفلات توقيع الكتاب الجديد، بل تسعى دائماً إلى عقد أمسيات للشعر، وندوات للفكر، مرتبطتين بصدور كتاب بالضرورة، ولعل مكتبات الكتب المستعملة لا تقلّ فاعلية في ذلك، لكن عادة ما يُفسد أنشطتها الصغيرة الكحوليون المتطفلون، الذي ينحشرون طمعاً بكأس نبيذ مجاني. تقليد التصفّح والقراءة في مكتبات بيع الكتب مظهر أكثر من رائع، أذكر أن الأمر كان جارياً حتى مع الدكاكين الصغيرة لبيع الصحف والمجلات، لك أن تقف للتصفح، حتى تستقر على أمر، أو تغادر من دون ذلك.منذ عشرين سنة استحوذنا، نحن الوافدين، على هذه المهنة، وتلاشت مع وجودنا هذه الفضيلة، فصار البائع الشرقي يضيق بمن يقلب مجّاناً «اشترِ أولاً، وقلّب ثانياً»!وكما انحدر كلُّ شيء باتجاه المودة والاستهلاك، انحدر سوق الكتاب، فبدأت مكتبات الكتب المستعملة تُقفلُ تباعاً، لا في شارع Chairing Cross وحده، بل في عموم لندن، ولأن معظم مكتبات الشارع إياه تعود ملكيتها إلى «الجمعية السكنية»، قررت الأخيرة عام 2001 رفعَ أسعار الإيجار، وكان هذا القشةَ المُنتظرة التي دفعت عدداً من المكتبات المتبقية إلى إغلاق أبوابها.لكن الكتاب المستعمل، الزهيد السعر، وجد منفذاً في «محلات الإحسان» هذه المرة، الناس تتبرع بما تملك من ملابس وأدوات وكتب، والمحلات توظف مردودها المالي للمشاريع الصحية، أو للعالم الثالث، وعاشق الكتاب له حصته من ذلك. يدفع المبلغ كمن يتبرع، ويقطف ثمرته كمن يستقبل هدية.واليوم، يُزاحم الكتاب الإلكتروني الكتابَ الورقي، جديداً كان أو مُستعملاً، فهو لا يحتاج شارعاً، ولا محلات وأبنية، ولا عملات نقدية، يأتيك بثوانٍ من شاشة حاسوبك، أو من شاشة ebook الجديد الذي غزا الأسواق، أو شاشة kindle الذي بدأ يغزوها الآن، وأنت، الذي نشأتَ على الكتابِ الورقي وألفتَ رائحته، لا تعرف إذا ما كان يقينك بدوام حضوره واستحالةِ الاستغناء عنه ضرباً من المكابرة، ووهماً من أوهام الكيان الخاسر.ولعل قرّاءَ المستقبل سينسون أن الكتابَ كان ورقاً، ورائحةً، ورطوبةً، وملمساً. وسيألفونه حروفاً وكلماتٍ، تتشكّلُ عبر تجريد رياضي، من دون رائحةٍ، رطوبةٍ، أو ملمس.