حلت وكنت في قمة اعتلاء قامتك. كنت ومازلت الرحيق الأول، بل «أول قطفة»، جنيناً تشكل في المحبة والخير والتسامح، ولكنك رحلت... لم تخبرني يا سيدي الجميل إن كان رحيلك عنا... وعني قسرياً أو اختيارياً. فالزمان لم يعد زماناً للمحبة والتسامح، وكأنك اخترت الرحيل، الدنيا ليست هي ذاتها، والجمال ليس ذاته، عندما رحلت.

Ad

قلبت يديَّ وبحثت عنك داخلي، فوجدتك إشعاعاً بل بريقاً لا يتجزأ، ويظل سنا برقك يضرب أطنابه، ويغوص حتى العمق في الخاطر والوجدان.

افتقدت بغيابك المكان والزمان، والابتسامة الساحرة، والضحكة المجلجلة، والقلب المفعم بالود والورد والألوان، فقد كنت يا سيدي ملك الألوان، كل الألوان الحافية، البريئة، المجردة دون إضافات فقد كنت والنقاء صنوان. تمشي على الشاطئ حافي القدمين، رمل البحر يدغدغ ثنايا أصابع قدميك، وأزيز الموج يخلصك من حبيبات الرمل فتنتعش وتنعشني.

الأفق البعيد في البحر، وليس في النهر، النهر يدعو إلى السكون والبحر يدعو إلى الكشف، «ويزيدك عمق الكشف غموضاً، فالكشف طريق عدمي»، أما كشفك فلم يكن عدمياً، بل خالص التركيز، لم تشغلك الضوضاء الغبية عن الرؤية بعينين محدقتين، وقلب مفتوح لكل الناس، كل البشر دون استثناء، أيا كان دينهم ولونهم وعقيدتهم وأفكارهم، فانتصرت على ذاتك، بينما خسر الآخرون ذواتهم، وغرقوا في الجدول الصغير، فما بالك بالبحر.

ذهبت، وما ذهبت، فخطاك ودقات قلبك تدق بين حنايا القلب دون توقف، هكذا أنت، أنزلت مرساتك لتستقر في ثنايا الضلوع فنتنفسك كما الهواء، ويخرج النفس كالنسمة وتبقى في كل الأرجاء والزوايا وتتكئ على السحاب، وتنتشر في أقصى الأفق، فلا تنتظر، فمداك بعيد، وأفقك لا يحده أفق. ونحن على قبسك نقتفي الأثر، لعلنا نجد الطريق.

رحلت، ولكن على الرغم من الوعثاء وقلة الزاد وطول السفر، فقد رسمت طريقاً، وأنرته بعينيك العميقتين، فمسارك لن تذروه الرياح مهما كانت عاتية.

ارقد بسلام يا صاحبي، فأنت والسلام أصدقاء، بسلام جئت وللسلام عشت، وبسلام رحلت، هكذا أنت، سلاحك السلام، قاتل الله البؤس والتعاسة والكراهية وتضخم الذات، فكم أتعبوا قلبَك النديَّ، وكم أتعبتهم، فقد حاروا فيك أيما حيرة.

ارقد بسلام ياصاحبي وليرحمك الله برحمته الواسعة، وكل البسطاء المهمشين المسالمين، واقبل مني قبلة على عينيك وليكن ما يكون. ولاحول ولا قوة إلا بالله.