(لو أن كل من يدعي أنه ناج من المحرقة النازية هو فعلاً كذلك، فمن الذين قتلهم هتلر ياترى؟!).

Ad

هذا ليس كلامي، ولا كلام واحد ممن ينكرون «الهولوكوست»، ولا كلام الذين ينكرون العدد المضخم لضحاياها... بل هو كلام إحدى الناجيات من المحرقة: إنها والدة الدكتور «نورمان فنكلستين» الذي نصب في كتابه الفذّ «صناعة الهولوكوست» محرقة فكرية هائلة للمحرقة الاصطناعية التي قامت بعد حرب حزيران، لتبتلع أموال الدنيا بلا هوادة، وكل رأس مالها رفات الموتى ودموع المعذبين.

منذ البدء، يضع فلنكستين حدا فاصلا بقوة بين «الهولوكوست» باعتبارها حدثا تاريخيا ينبغي للعالم أن يتعلم منه، وبين «الهولوكوست الصهيونية» التي اخترعتها الحركة اليهودية الأميركية لابتزاز العالم، ولدعم شبكة أعمالها الواسعة، على حساب ضحايا النازية عموماً، واليهود منهم على وجه الخصوص.

وهذه الصناعة المبتدعة ما كان لها أن تقوم لولا أن توافقت المصلحة المالية للحركة اليهودية الأميركية، مع مصلحة التخطيط الاستراتيجي الأميركي.

وإذا كان هذا التوافق قد تأسس على بروز إسرائيل بعد حرب حزيران كقوة يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد عليها، فإن إسرائيل نفسها لم تكن «هدفا» بقدر ما كانت وسيلة لخدمة الهدف المشترك بين أميركا كإدارة، وبين يهودها كحركة.

وبعبارة أكثر تبسيطا... إن وجود إسرائيل يعطي الثقة لأميركا للقول بأن لمصالحها كلب حراسة قويا في الشرق الأوسط، مثلما يعطي الحق للحركة اليهودية الأميركية، في غمرة استثمارها، بالقول: إن هذا الكلب الأجير.. هو كلبنا!

ولمَ لا تحقق أقصى الاستفادة من هذا الوضع، إذا كان أولاد الكلب البعيدون هم وحدهم الذين يواجهون الموت؟

إن نظر تلك الحركة إلى محنة اليهود لم تحكمه أبدا المعايير الإنسانية أو الأخلاقية، بل معايير المصلحة الخاصة.. والمالية منها إلى حد بعيد، ولذلك فهي في التوصيف النهائي ليست سوى «شايلوك» يعاد إنتاجه بصورة أوسع وأقسى مما تفعله إعادة إنتاج «تاجر البندقية» لشكسبير، لأنها تستعير لنفسها طبيعة «دراكيولا» الذي يبعث بالدم، ويواصل حياته بالدم، ولا توفر في مسعاها إلى هذه الغاية حتى دماء أبنائها.

يؤكد الكتاب أن الحركة اليهودية الأميركية التوّاقة دائما إلى الفوز بحظوة النخب الحاكمة في الولايات المتحدة، كانت تفعل الشيء ونقيضه بما يتلاءم مع شروط هذه الخطوة.

فالهولوكوست النازية، مثلا، لم تذكر إلا بصعوبة في الحياة الأميركية حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين، وذلك امتثالا للمناخ السياسي الذي ساد في أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، مما سهل تحقق الاهداف التقليدية للنخب اليهودية في الاندماج بالمجتمع الأميركي وفي النفاذ إلى مراكز القوة.

وأكثر من هذا أن تلك النخب اليهودية نسيت الهولوكوست النازية أثناء الحرب الباردة، بعدما أصبحت ألمانيا حليفة حاسمة لأميركا!

ولأن تذكر الهولوكوست كان مدموغا بأنه من اهتمامات الشيوعية، فإن اللجنة الأميركية اليهودية، والرابطة المعادية للتشهير، تعاونتا بنشاط مع الإدارة الأميركية في حقبة سيئ الذكر «ماكارثي» التي تميزت بمطاردة المنشقين والمعارضين، فقدمتا إلى الوكالات الحكومية ملفات كانت بحوزتهما عمن زعم أنهم مخربون يهود، ولم تتورع اللجنة اليهودية، في ذلك السبيل، عن المصادقة على عقوبة الإعدام بحق الزوجين اليهوديين جوليوس وايثل روزنبرغ، اللذين حوكما في نيويورك عام 1951 ثم أعدما في سجنهما! وإذ خشيت المنظمات اليهودية التقليدية أن يرتبط اسمها باليسار السياسي خارج وداخل الولايات المتحدة، فقد عارضت التعاون مع الألمان الديمقراطيين الاجتماعيين المعادين للنازية، وعارضت أيضا حملات مقاطعة المنتجات الألمانية، والتظاهرات العامة ضد النازيين السابقين، وغضت النظر عن دخول أعضاء سابقين في جهاز «أس أس» النازي إلى الولايات المتحدة، في الوقت الذي أعلنت ذمها الشديد للمنشق الألماني البارز «مارتن نيمولر» الذي أمضى ثمانية أعوام في معسكرات الاعتقال النازية، لمجرد معارضته للحملة الرسمية الأميركية المناهضة للشيوعية!!

وكما قللت تلك المنظمات من شأن الهولوكوست النازية في الأعوام التالية للحرب العالمية الثانية من أجل التكيف مع أولويات حكومة الولايات المتحدة، فإنها التزمت أيضا سياسة الولايات المتحدة في ما يخص نظرتها إلى إسرائيل، فمنذ وقت مبكر أضمرت النخب اليهودية الأميركية مشاعر ريبة عميقة حيال «إقامة» دولة يهودية!

ومع أنها تبنت في النهاية الحملة التي قادتها الصهيونية من أجل قيام دولة إسرائيل، فإنها كانت على الدوام ترصد الإشارات القادمة من واشنطن وتتكيف معها بدقة.

ولكن كل ذلك انقلب رأسا على عقب، وبشكل مفاجئ وصاعق، بعد حرب حزيران 1967، فإذ تأثرت الولايات المتحدة بعرض إسرائيل الهائل لقوتها، تحركت لادخالها ضمن رصيدها الاستراتيجي، وتبعا لذلك اكتشفت النخب اليهودية الأميركية إسرائيل فجأة! ففي حين كانت إسرائيل تستحضر في الأذهان بعبع «الولاء المزدوج» صارت بعد ذلك العام تعني «الولاء الفائق لأميركا» وبينما لم يكن بمقدور النخب اليهودية الأميركية، في السابق، إلا أن تقدم بضع قوائم بأسماء «المخربين» اليهود، إثباتا لولائها، أصبح باستطاعتها أن تنصب نفسها محاورا طبيعيا ممثلا لرصيد أميركا الاستراتيجي.

وهكذا ارتقى أفراد تلك النخب من ممثلين يؤدون أدوارا صغيرة إلى صدارة قائمة الممثلين في مسرحية الحرب الباردة.. ومعنى ذلك أن إسرائيل باتت رصيداً استراتيجياً ليس للولايات المتحدة فقط، ولكن لليهود الأميركيين أيضاً.

ومن هنا نشأت الحاجة إلى إقامة ورشة لإدامة هذا الرصيد وتنميته وصيانته.. فكان أن نبش قبر «الهولوكوست النازية» المنسية، ومن أكوام رميمها تم بناء «هولوكوست يهودية أميركية» تنتج وتعيد إنتاج المأساة، وتبيع الهواء في سوق الغفلة بمبالغ طائلة تجدد دعائم الآلة المسماة إسرائيل، وتملأ جيوب أصحاب الاستثمار.

وبدأ الأمر بتحصيل تعويضات هائلة باسم ضحايا النازية، ومن ألمانيا بالذات التي دفعت وحدها حتى الآن ما يزيد على ستين بليون دولار، برغم أنها، بعد تحالفها مع الولايات المتحدة، لم تكن واقعة تحت ضعط حقيقي من حليفتها من نوع «ادفع أو تقمع» لكنها، كما يبدو، امتثلت بدوافع أخلاقية لا تخلو أيضا من كونها وقائية!

وعندما استنزفت الهولوكوست «الأميركية» دم الألمان، التفتت إلى غيرهم، وما إن استنفدت طاقة الآخرين، حتى تحولت إلى ماكينة صريحة لابتزاز الأموال باسم الناجين من المحرقة، فإذ زعمت أنها تمثل يهود العالم بأجمعهم أحياؤهم وأمواتهم، راحت تدعي ملكيتها لأرصدة اليهود في كل أنحاء أوروبا خلال الحقبة النازية، وبذلك أجبرت المصارف السويسرية وحدها على دفع بليون ومئتين وخمسين مليون دولار، تحت ضغط الزعم بأن «الناجين من الهولوكوست المحرومين يموتون كل يوم».

لكن ما إن تنازل السويسريون عن المال، حتى زالت الحالة الملحة بأعجوبة.. فقد مضت أعوام على التسوية، من دون أن توضع أي خطة لتوزيع تلك الأموال على أصحابها!

والمفارقة الصاعقة في هذا الشأن، أن لجنة «فولكر» اكتشفت أن الولايات المتحدة قد كانت هي أيضا- إلى جانب سويسرا- ملاذا للارصدة اليهودية الأوروبية، لكن أحدا لم يطلب من أميركا إعادة الأموال التي بحوزتها إلى أصحابها الضحايا.. بل إن هذا الاكتشاف الخطير لم يرد ذكره إطلاقا في وسائل الإعلام الأميركية!

ويعلق «فنكلستين» على هذا الأمر قائلا إنه «ليس غريبا ألا تطلق صناعة الهولوكوست حملة للتحقق من المصارف الأميركية، وذلك لأن تحقيقا ماليا عن مصارفنا، من نوع التحقيق المالي السويسري، لن يكلف دافعي الضرائب الأميركيين الملايين، بل البلايين من الدولارات، وقبل أن ينتهي مثل هذا التحقيق المالي الأميركي، سيكون الأميركيون اليهود قد باتوا يبحثون عن ملجأ في ميونيخ «مدينة هتلر الأثيرة».. إن للشجاعة حدودا!

وهو بهذا يعني، بسخرية مرة، أن أميركا ستدمر يهودها إذا فعلوا شيئا من هذا القبيل.

وبينما لا تزال الماكينة المصرفية تشتغل على كل الجبهات الأوروبية، انهمكت الصناعة في إنتاج بضاعة جديدة هي المطالبة بتعويضات لعمال السخرة اليهود في معسكرات النازية ممن لا يزالون أحياء.

وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد قدرت في مايو 1999 عدد هؤلاء ما بين 14 و18 ألفا، لكن صناعة «الهولوكوست» طالبت ألمانيا بتعويضات تقدم إلى 135 ألف عامل سخرة ما زالوا أحياء.. أي أن عدد هؤلاء تضاعف منذ مايو 1999 عشر مرات تقريباً وهذا التلاعب الوقح بالأرقام يجعل أعداء السامية يهزّون رؤوسهم طرباً، إذ يرون «صناعة الهولوكوست» قد أصبحت هي نفسها المهيّجة لنزعة العداء السامية في أوروبا، وهي نفسها المشتغلة بحماس على تبييض صفحة النازية!

وإذا جرت مضاعفة أرقام اليهود الناجين من معسكرات الاعتقال النازية، بهذه الضراوة، فإن صناعة المحرقة «الأميركية» سوف تنكر بنفسها، وخلال بضع سنوات لا أكثر، وجود المحرقة النازية!

وعلى هذا فإن الصهيونية الأميركية التي حفرت قبراً واسعاً للاستثمار، سوف لن تجد أمامها في النهاية إلا أن ترقد فيه، وتهيل على نفسها تراب الكذبة الشاسعة.

* شاعر عراقي