حكاية الشعب الكويتي المريض!
نشر ديوان الخدمة المدنية منذ فترة إحصائية الإجازات المرضية التي منحت للموظفين الكويتيين في عام 2009، وأقل ما يمكن أن يقال عنها إنها إحصائية جالبة للهم والحزن، والمرض بحق، فالأرقام مهولة لا يصدقها العقل، ولو رآها من لا يعرف هذه البلاد وأهلها ولا يدري أين موقعها على الخريطة، لظن أننا من تلك الشعوب البدائية التي تتناهشها الأمراض وتشيع فيها الأوبئة، وإلا فما معنى أن يتم منح أكثر من مليون إجازة مرضية لأكثر من ثلث الموظفين الكويتيين خلال ذلك العام فقط؟! بل بزيادة 28% عن العام الذي سبقه!
بالرغم من كل دعاوى وزارة الصحة بأنها لا تتهاون في مسألة منح الإجازات المرضية، فإن الكل يدرك اليوم سهولة حصول الموظف الكويتي على الإجازة المرضية من أي مستوصف أو مركز صحي حكومي، ولأي عذر هلامي بائس كان: وجع ظهر، وجع رأس، آلام مفاصل وعضلات، نزلة برد، تساقط شعر، تقصف أظافر، وخذ يا إجازات ليومين وثلاثة وأربعة وخمسة!وأما عن المراكز الصحية الخاصة فلا تسل، فالوضع على رأس المأساوية، حيث بات من الممكن الحصول على الإجازة المرضية دون الحاجة حتى إلى رؤية سحنة الطبيب وبمجرد الاتصال بالهاتف، بل مع خدمة التوصيل للمنازل، وبخمسة دنانير فقط... وإن كان أحد منكم سيقول إن الإجازات الممنوحة من هذا القطاع لابد أن تعتمد من إدارة التراخيص الطبية أو المجلس الطبي العام مثلاً، فسأقول، بأن هذا بذاته صار روتيناً باهتاً أسهل من قلي البيض، واسألوا المتمارضين، وما أكثرهم! أدرك كطبيب اختصاصي في الصحة المهنية، أن إجبار الموظف على المجيء إلى العمل دون رغبة منه، لن يعود بأي فائدة على وظيفته، فإنتاجيته ستكون صفراً، تماما كإنتاجية «خيشة عيش بسمتي» تم إجلاسها على كرسي المكتب، بل لعلها ستكون أقل حتى من «خيشة البسمتي» فهذا الموظف قد يتحول إلى عنصر تأزيم واختلاق مشاكل مع زملائه ومراجعيه، لكن هذا لا يعني أن يترك الحبل على الغارب، وصولاً إلى أن يتغيب البعض عن أعمالهم الحكومية ولفترات طويلة لأسباب «طبية» واهية، دون أن ينعكس الأمر على وضعهم الوظيفي بأي شكل من الأشكال؟! الدولة متواطئة في ما يجري مهما ادعى المسؤولون عكس ذلك، وإلا ما معنى أن من حق الموظف الكويتي في بعض قطاعات العمل مثلاً أن يأخذ إجازات طبية متواصلة وبراتب كامل لمدة ستة أشهر، في حين أنه لا يحق لغير الكويتي إلا بضعة أيام يبدأ بعدها خصم نصف راتبه؟ هذا هراء كبير، ولا يمكن أن نقتنع بأنه يستند إلى أي معيار طبي أو إداري موضوعي، اللهم إلا إذا كان هناك من يرى أن الكويتي أكثر «نعومة وحساسية وترافة» وعرضة للمرض واستحقاقاً للإجازة المرضية من نظيره غير الكويتي! وكذلك ما معنى أن ترتفع نسبة منح الإجازات المرضية وتتصاعد بشكل خرافي، قبيل عطل الأعياد، وكذلك في الأيام التي تقع بين الإجازات الرسمية؟ هل الأعياد والإجازات الرسمية تأتي حاملة الفيروسات والبكتيريا والفطريات التي لا تستهدف إلا الكويتيين؟! إن الأمر، وبكل بساطة، هو «دلال ودلع» من مخلفات سياسات الدولة الرعوية الماضية، أو ما يسمى بالدولة الغنية الكافلة لمواطنها من المهد إلى اللحد، منحته بملء إرادتها لهذا المواطن، فأفسدته، وتأتي اليوم لتتشدق بأنها تتضرر منه وتسعى إلى أن تكافحه وتصيح بأنه يكلفها سنويا ملايين الدنانير (أكثر من عشرين مليون دينار في عام 2009 فقط)!ولا أدري كيف يظن من أطل علينا اليوم بالخطة المليارية للتنمية بأننا صدقنا أنها ستنجح فعلا بمجرد ضخ هذه الأموال الطائلة، ونحن نرى بأم أعيننا تدهور حال عنصرنا البشري العامل، والذي هو المحرك الأساس لأي خطة تنمية يراد لها أن تنجح في أي مكان في العالم، بل حصول هذا تحت نظر الدولة ومباركتها!لا قيمة لأي خطة تنمية، ولا رجاء لبلوغ نتائجها المزعومة، ما لم يكن في صميمها مشروع «انتفاضة» واضحة على صعيد كل معايير العمل الوظيفي الحكومي، يهدف إلى مراجعة طبيعة ظروف العمل ومستوياته، وكذلك إلى رفع معدلات الإنتاجية التي يقال إنها صارت لا تتجاوز بضع دقائق في اليوم للموظف الكويتي وللأسف، ويضع معايير التقييم والمحاسبة والمكافأة والترقيات محل التطبيق الحقيقي بحيث يتمايز المنتج عن غير المنتج والمتلاعب والمتمارض، وأما ما عدا ذلك فسيظل حبراً على ورق، وأحاديث كأحاديث العجائز المضمخة بالتخاريف!