تناولت في مقالي الأحد الماضي "قاسم أمين وقضية الحجاب في ذكرى رحيله" واستكمالا للحديث، فإن سفور المرأة لدى قاسم أمين، لم يكن غاية في ذاته، بل هو جزء من رسالة أعم وأشمل هي الدعوة إلى تعليم المرأة وإلى النهوض بها لتخرج إلى العمل في المجالات كافة، فإن معركته بمقياس الزمن الذي دعا فيه إلى ذلك، كانت معركة شرسة وضارية، لم يشهد التاريخ لدعوة في ضراوتها سوى رسالات الرسل، حتى وصف شاعر النيل ضراوتها، بأنها وصلت به إلى مرتبة الرسل في قوله:  

Ad

إن رأيت رأيا في الحجاب ولم              تعصم فتلك مراتب الرسل

فقد كان ما قاله هو إحساس الشاعر الصادق الذي عاصر قاسم أمين، ورأى ما رآه قاسم من حال الأمة الإسلامية، التي كانت ترزح فيها المرأة تحت ظلم الجهل والقسم والقهر، وقد سلبها الرجل باسم الدين كل الحقوق التي منحها لها الإسلام ورأى ما رآه من ضراوة الحملة الشعواء التي تعرض لها قاسم.

عصر انحطاط مكانة المرأة:

فقد عاد قاسم أمين إلى مصر في عام 1885 بعد أن أتم دراسته في القانون في جامعة مونبيليه بفرنسا بعد أن حصل على الليسانس من مدرسة الحقوق والإدارة في مصر، قبل سفره في بعثة إلى فرنسا، عاد ليرى مصر والأمة الإسلامية، في دياجير الظلام التي تركها فيها، وقد تفشت في مجتمعاتها العادات السيئة التي تتوارث ثقافة الحط من مكانة المرأة، حيث كانت تدرس في المدارس في الأدب العربي رسالة أبي بكر الرازي التي بعث بها منذ ألف عام إلى صديق معزيا في وفاة ابنته، يقول فيها:

"ولولا ما ذكرته من سترها، ووقفت عليه من غرائب أمرها، لكنت إلى التهنئة أقرب إلى التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات... نحن في زمان إذا قدم أحدنا فيه الحرمة فقد استكمل النعمة، وإذا زف كريمة إلى القبر، فقد بلغ أمنيته من الصهر... كما قال الشاعر:

ولم أر نعمة شملت كريماً                        كنعمة عورة سترت بقبر"

وفي شعر الشاعر الكبير أبي العلاء المعري يقول:

إن النساء حبال سوء                             بهن يضيع الشرف التليد

- ضراوة الهجوم على قاسم:

كان هذا الموروث الاجتماعي للنظرة إلى المرأة عندما وجه قاسم أمين دعوته إلى سفور المرأة، والنهوض بها وتعليمها وإحسان تربيتها كأساس للأسرة والعائلة، لتخرج إلى العمل وتجالس الرجال، ولا عجب في ذلك إذا كانت دعوته لم تلقَ قبولاً من العامة والدهماء، ولكن دعوته لم تلقَ قبولاً أيضاً من كثير من المثقفين والمستنيرين، بل من الزعيم الوطني مصطفى كامل الذي رماه بأن دعوته هي خدمة للاستعمار، وكان الإنكليز قد ترجموا كتابه "تحرير المرأة" إلى اللغة الإنكليزية، ونشروه في مستعمراتهم، كما هاجمه طلعت حرب، الذي بنى على أكتافه بعد ذلك بسنوات صرح الاقتصاد الوطني المصري، في كتاب له بعنوان "فصل الخطاب في المرأة والحجاب"، كما هاجمه محمد فريد وجدي في كتابه "المرأة المسلمة"، ولكن قاسم رد على هذا الهجوم بكتاب أشد جرأة وخطورة هو كتاب "المرأة الجديدة" ليواصل معركته في المطالبة بتحرير المرأة.

وكان بعض أصدقائه يتجنبون الاتصال به حتى لا تحوم حولهم شبهة مشاركته هذه الدعوة، بل توقفت دعوته لحضور الحفلات الرسمية في ديوان الخديوي والتي كان يُدعى إليها من كان في وظيفته مستشاراَ بمحكمة الاستئناف، وبعث له كبير الياوران من يقول له "إذا كنت صادقاً في دعوتك إلى تحرير المرأة، فاسمح لكبير الياوران وأصدقائه، بالدخول إلى بيتك ومجالسة زوجتك"، فكان يرد على هذه الاستفزازات بقوله: "ليس في دعوتي إلى تحرير المرأة ما يدعو إلى الريبة في مجالسة المرأة للرجل وسط مجتمع يؤمن بالله وبرسوله، وإذا كانت وظيفتي عائقاً دون الاستمرار في معركتي من أجل تحرير المرأة، فإني على استعداد للاستقالة".

متأسيا بقول سيد الخلق أجمعين الرسول عليه الصلاة والسلام "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك من دونه".

- السفور ليس خروجا على الدين:

ولم يكن قاسم يرى في دعوته إلى السفور خروجاً على الدين، حيث قال في كتابه "تحرير المرأة":

"لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصا تقضي بالحجاب، على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين، لوجب عليّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفاً يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها من دون بحث ولا مناقشة، لكننا لا نجد نصاً في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، إنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها".

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.