الكاتب والمعلّق السياسي حازم صاغيّة: العروبة كهويّة سياسيّة خطر على المنطقة العربيّة

نشر في 02-06-2009 | 00:00
آخر تحديث 02-06-2009 | 00:00
الصحافي والكاتب اللبناني حازم صاغية أحد أهم الأسماء البارزة في الصحافة اللبنانية والعربية خلال أكثر من عقدين ككاتب ومعلق سياسي. يفاجئك في بأسلوبه الساخر والممتع في آن. يخرج عن روتين الكتابة السياسية السطحية، ليدخل في نقد العصبيات والأيديولوجيات والأيقونات الثقافية والسياسية. معه هذا الحوار.

لماذا عنونت سيرتك «هذه ليست سيرة» اقتباساً من الرسام البلجيكي ماغريت الذي كتب تحت لوحة الغليون «هذا ليس غليوناً»؟

لا يتوافر في كتابي الكثير من عناصر السيرة لأنه يتضمن فجوات كثيرة في هذا المجال.

السيرة تتحدث عادة عن أشياء خاصة وذاتية، فيما يتطرّق كتابي إلى مسار ثقافي - سياسي - اجتماعي، ويتناول دلالات بعينها، لذا لا يشكّل سيرة، إنما أستطيع اعتباره نوعاً من حذرٍ من التورط في كتابة سيرة.

كذلك جعلتني عناصر أخرى أقل أهمية أتّخذ هذه العبارة لماغريت، الذي حاول أن يميّز بين الشيء وصورته، وفعلاً الكتاب هو صورة، فثمة وجه آخر للموضوع، إذ ربما يظن المرء أن ما يكتبه حقيقياً ويتبين أنه ليس كذلك.

ماذ بقي من حازم صاغية القومي والعروبي والإسلامي والماركسي، أو بمعنى آخر ماذا بقي من القضايا التي كتبت عنها في سيرتك، بعدما أصبحت الآن في مكان آخر في تفكيرك؟

بقي أنني أعرف الأمور التي لا أريدها، ولا تهمني معرفة الأمور التي لا أريدها. أي أنني نمّيت الحس النقدي تجاه التيارات والأفكار والممارسات، وتوصلت الى قناعة أنها ليست ملائمة. «العروبة» و{الإسلام السياسي» وتلك التيارات كافة، لا يبقى منها الكثير، لأنها في نهاية الأمر أحد أشكال العصبيات، وليست مورداً ثقافياً أو فكرياً.

الماركسية بالتأكيد يبقى منها الكثير، لأنها أحد أشكال التحليل الاجتماعي. تساعد في تحليل علاقات الطبقات الاجتماعية والمجتمعات. طبعاً على المرء أن يتخذها بكثير من المرونة والانتقائية، لأنها مكتبة ضخمة لا نستطيع أن نمر عليها مرور الكرام، وديالكتيك الماركسية يعلمنا نفي الأشياء وصولاً الى نفي الماركسية نفسها. إنها لعبة مفتوحة للتفكير.

لا أسمي نفسي ماركسيا لأنني لا أؤمن بأي نزعة خلاصية، أو تلك التي تتحدث عنها الماركسية من خلال «دكتاتورية البروليتاريا»، ورغم إلحاديتها، إلا أن الماركسية في هذه النزعة تتحدث من خلال وعي ديني.

لست ماركسياً بمعنى أن الماركسية وُجدت لعلاج مشكلات مجتمعات غير صناعية، فقلّ ما يفيد هذا الفكر في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، مشكلاتها طوائف وعشائر وإثنيات وقبائل، على أن الأحزاب الشيوعية التي سيطرت على الأنظمة في أوروبا وغيرها حوّلت الماركسية الى أداة للقمع فاستحالت تصنيماً للفكر، لكن بالتأكيد تبقى أشياء كثيرة من الماركسية، كسوسيولوجيا أو كطريقة لتحليل العلاقات الاجتماعية، ورؤية الاقتصاد السياسي.

لا تسمي نفسك ماركسياً. هل أنت «نيوليبرالي» أو «ليبرالي»؟

ليبرالي، لكن مسألة الليبرالية في الغرب محسومة من حيث الهوية الوطنية والدولة الأمة. أن تكون ليبرالياً أي أن تكون مع الحرية، أن تفكر وتعيش على طريقتك، وأنا لا استعمل كلمة ليبرالي كثيراً لأننا في مجتمع غير سياسي، لا يمارس السياسية بل «فوران» العصبيات. هل تكون السياسة بفوز الدروز على الشيعة، أو الشيعة على السنة؟! لا نستطيع أن نزعم أننا نقوم بعمل سياسي ما لم نحسم موضوع «الدولة – الأمة»، ونصبح لبنانيين بامتياز، بمعنى أن يكون ولاؤنا السياسي للبناننا ودولتنا أولاً، وليس لعشيرتنا أو قبيلتنا أو عائلتنا، ولا حتى إلى الأمة العربية أو الإسلامية، ولا لتحرير فلسطين ولا للمسيحية العالمية. إذا تحقق هذا الأمر نستطيع أن نشتغل في السياسة ونتحدث في الليبرالية وغيرها، لكن هذه المسألة غير محسومة في لبنان ولا في معظم العالم الثالث لأن العصبيات أقوى من كل شيء.

الدولة في السياسة مثل النقد في الاقتصاد، مثل الكرة في كرة القدم. والأمور التي ذكرتها إذا لم تتحقق تصبح السياسة لاسياسية، أو تغدو طريقاً إلى الموت. ففي مجتمع كمجتمعنا قوامه العصبيات نلاحظ أن النقاش لا يمتّ إلى حيثيات النقاش الفعلي بصلة، وليس ليبرالياً – ليبرالياً ولا يسارياً – يسارياً. هذا هو مصير الشيوعية والليبرالية في العالم العربي كتيارين مصادرهما الحداثة الأوروبية. لقد انتهى الشيوعيون كمجموعة هوامش، تلتحق بالطوائف الأساسية بحسب الولاء السياسي، والليبراليون مجموعة من الشبان أو المثقفين يجلسون في المقاهي. ماذا يفعل هؤلاء حيال توحّش الطوائف وقوتها؟ ماذا تستطيع أن تقول في نزاع امتدّ جذره إلى «علي» و{عمر»؟

ثمة من يقول إن الطوائف هي نتيجة الحداثة و{الثقافة الليبرالية»؟

الطوائف ليست حداثة، بل شكلها الطائفي الذي نعيشه حديثاً. الانقسام العصبي في مجتمعاتنا لا ينقطع، من العرب والموالين الى الأمويين والعباسيين، الى القيسيين واليمنيين، فمن أصل أربعة خلفاء راشدين قُتل ثلاثة عبر الفتن الداخلية، وحدث ذلك قبل أن تُكتشف أميركا وقبل أن تنشأ الصهيونية.

الحداثة أتخذت شكل الطوائف في فترات سابقة، كان النزاع حينها يتخذ شكل العشائر والقبائل... هذا العصبية الخلدونية موجودة في تكويننا الاجتماعي للأسف، ولم يحدث أن أعيدت صياغة التكوين الاجتماعي. السلطنة العثمانية مثلاُ بقيت 400 عام في الحكم ولم تتدخّل الدولة في أمور المجتمع، إذ كانت برانية، تأخذ الضرائب من الناس، والشبان الى التجنيد، وتترك الملل والنحل تتصرف بأمورها وشؤونها. عندما أتى الغرب الى بلادنا نقل تجربته، وحاول إعادة صياغة المجتمع، فاصطدم بنا ليس لأننا ضد الاستعمار، فنحن لم نكن نعرف معنى الوطن ولا معنى الاستعمار، بل لأن الدول الغربية تريد أن تنظم شؤون مجتمعنا.

سلطان باشا الأطرش مثلاً أو أدهم خنجر، أو قادة ثورة العشرين في العراق، لم يكن لديهم الوعي الوطني، لكن حين أتى الفرنسيون لاعتقال خنجر من بيت سلطان الأطرش أمسك الأخير بشاربيه وأعلن الثورة... الى اليوم، كم مرة تقرأ كلمات مثل «الشرفاء» و{العنفوان» و{الكرامة» في اللغة السياسية؟ إنها كلمات لا علاقة لها بالسياسة، بل أتت من القاموس الأخلاقي القديم.

من يشتغل في السياسة عليه متابعة آراء الخصم بغض النظر إن كان الأخير شريفاً أو غير شريف. مثلاً لا بد من أن نعرف موقفه من العلمنة والاقتصاد والدولة... بعض النظر إن كان «أشرف الناس» أو صاحب «عنفوان»، وبالمناسبة هذه الكلمة لا تتوافر لها ترجمة في اللغة الأجنبية، ومصدرها «العنف».

هل تمثّل ما يسميه النائب سمير فرنجية «العروبة الحضارية»، وما رأيك بهذه الفكرة المستجدة؟

ما معنى العروبة الحضارية؟ هل تعني أننا كلنا عرب؟ أقول قبل أن نتحدث بالعروبة، نحن في حاجة إلى التأكيد على ولائنا للدولة، لأن دولنا إذا انهارت ستنهار ليس لمصلحة دول أكبر، بل لمصلحة دول أصغر، مرفقة بالموت والألم للجميع. والعروبة استخدمت في لبنان كمطية، كذريعة لدى عصبية ضد عصبية أخرى، والأمر نفسه في العراق والسودان. أججنا العروبة، فخسرنا الممكن في سبيل الوهم. لا نستطيع أن نوحّد سنة لبنان وشيعته أو مسلميه ومسيحييه. إذا كان القصد من العروبة الحضارية أنها على نسق أوروبا الحضارية، أي دول تتعايش مع بعضها فهذا أمر ممكن، لكن العروبة كهوية سياسية خطر على المنطقة العربية كافة.

هل جعلتك مجتمعاتنا تتجه الى الاهتمام بثقافة الفرد والفردانية؟

عانينا كثيراً وحاولنا، لكننا لم نصبح مجتمعات حديثة، سواء في غياب الدولة من خلال الولاء للعشائر والقبائل، أو مزاعم أيدلويوجية كبيرة، سواء العروبة أو الإسلام السياسي أو الإشتراكية. هذه الأمور يمكن وصفها بأنها سحقت إمكان بناء دول ومجتمعات حديثة، وفرصة مشاركة الناس في الوطن كمواطنين.

هل تلاحظ كم ترد كلمة «أخوة» في اللغة السياسية العربية، وقبلها كلمة «الرفاق»؟ هاتان الكلمتان ومثيلاتهما مستقاة من العصبيات والعشائر. لا بد أن نكون مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ويلي ذلك على الصعيد الثقافي تعزيز فكرة الفرد، لأنك إذا لم تستطع أن تصنع المواطن لا تقدر أن تقدّم الفرد إيجاباً.

ثمة من يخونك أو يتهمك بـ{الإمبريالية» و{العمالة»، كيف تنظر إلى هذا الأمر؟

الاتهام بالعمالة صيحة في التقاليد غير الديموقراطية، فعندما تختلف مع أحدهم تسارع إلى إلصاق التهم به.

هل ثمة من يحسدك؟

ثمة ضيق صدر من الاختلاف. في رأي البعض لا تملك حق التفكير في أمور يعتبرها هو ثوابت، وليس لك حق بعد كل الترهل والهزائم والتراجع أن تقول تعالوا لنرى مدى صحّة الطريق الذي سلكناه. إذا كنت تملك شركة وأفلست عليك أن تقفلها، أليس كذلك؟ دخلنا في الصراع العربي – الإسرائيلي، وكانت مصر والاتحاد السوفياتي معنا، الأولى عقدت السلام، والاتحاد السوفياتي انهار، والبعض متمسك بموقفه بفعل المكابرة، والشعب الفلسطيني يدفع الثمن وهو الضحية. أصيبت فلسطين ككينونة سياسية بنكسة كبيرة بعد انفصال عزة عن الضفة، وبعدما أغرقت إسرائيل الأخيرة بالمستوطنات. أتمنى أن يقدر الرئيس محمود عباس مع الرئيس الأميركي باراك أوباما على إقامة دولة.

المشكلة أن الكثير من العرب يستغل الموضوع الفلسطيني في كل شيء، وهذا ليس بجديد. فمنذ نشأة الدول العربية، كان كل عجز عن بناء دول ومجتمعات يترجم بمزيد من التأجيج للصراع العربي الإسرائيلي، بدلاً من اللجوء الى حلّ المشاكل، يفتعلون مشاكل أخرى. خذ مثلاً لبنان، لم نستطع أن نبني بلداً منصفاً للطوائف. حدثت في سوريا انقلابات عسكرية جعلتها ترتمي عام 1958 في أحضان مصر للخلاص من همومها، وفي العراق قامت انقلابات عسكرية تُوجت باستبداد صدام حسين، هكذا مجتمعات لم تستطع أن تدخل في العصرنة.

كنتَ من المدافعين عن السلام. ألا ترى أنه أصبح مستحيلاً اليوم؟

من حيث المبدأ، ما زلت مدافعاً عن السلام، لكن عمليته باتت صعبة جداً. إسرائيل أصبحت في مكانٍ من العنجهية المفرطة، والفلسطينيون أمسوا عاجزين تماماً. لا أعرف أي صيغة ستحلّ قضيتهما، فالسلام الذي بدأ مع أوسلو تعرّض لانتكاسة كبيرة.

انتقدت كثيراً الأيقونات، سواء الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية، لكن يؤخذ عليك أنك انتقدت أم كلثوم كثيراً رغم أنك أحد مستمعيها؟

تحدثت عن أم كلثوم كصورة image ونص، وهذا لا يلغي أنني أحبها، فأنا ابن هذا المجتمع.

لا يزال بعض الأقلام المصرية يتحدث عن نقدك لها.

نقد المقدسات والأيقونات من المتنبي الى أم كلثوم ضرورة، إذا لم يتوافر عقل نقدي لا تنجح فلسفة الإصلاح ولا ينشأ علم الاجتماع، ولا الإصلاح الديني.

في تعليقك الصحافي اليومي، من أي مسوغات تنطلق، والى أي أمر تنحاز؟

يستأثر باهتمامي حدث أو فكرة. أزعم أنني أكتب للدفاع عن العقلانية في التفكير وعن الواقعية في السياسة. والعقلانية والواقعية مشدودتان أيضاً ولو ضمناً الى أولوليات الدولة والمجتمعات الحديثة. يجب ألا نفكر كعشائر وطوائف أو أمة عربية، بذلك نبرز كياننا السياسي، وإذا لم نفعل ذلك نبقى كمن يلعب الكرة من دون ترسيم الملعب، فيبقى الميدان السياسي غير سياسي، والميادين الأخرى بلا معنى.

لا يتألف العالم من أيديولوجيات وشعارات، بل من دول، والدولة مصنع الطمأنينة. أوروبا تعاملت مع بعضها كدولة فحلّ فيها الأمن، أمّا في العالم العربي فكلمة «الأخوة» مصحوبة بفعل الهجوم.

لماذ توقفت عن إصدار مجلة «أبواب» هل انتهى مشروعها؟

بكل بساطة، لم تعد تحصل على التمويل، ولم تلق رواجاً.

هل لأنها غير شعبوية؟

لا. لأنها لم تقم على دعوة أيديولوجية، فهي لا تبشّر بالقومية العربية ولا بالحداثة.

كتبت كثيراً حول التوقف عن التدخين، لكنك ما زلت تدخن؟

تماماً كما موضوع أيقونة أم كلثوم. نحن ضعفاء أمام أمور قد لا نحبها.

فقدت زوجتك الكاتبة والناشرة مي غصوب، ماذا تقول في غيابها؟

فقدان كبير، أشعر به في كل لحظة. كانت متعددة الاهتمامات، والصداقة التي جمعتنا، من السفر المشترك إلى متابعة الأحداث، كانت تملأ فراغاً كبيراً في الحياة.

تتنقّل بين العاصمتين بيروت ولندن، كيف تصف فروقات العيش في المكان الأكثر حرية والأكثر عصبية؟

لندن مدينة تعلمك أكثر من بيروت نظراً إلى هامش الحرية الكبير فيها، إضافة إلى النشاطات الثقافية والمسارح والمعارض. في المقابل اذا أردت أن تقابل صديقاً عليك أن تخطط قبل شهر للمشروع لأنك تعيش في مدينة كبيرة.

أمّا بيروت فتتميّز بطقسها الجميل، وسهولة الوصول الى الأصدقاء فهي مدينة صغيرة، لكن للأسف، لا يتوقف فيها الحديث الدائم عن المعارك، ولا تستطيع أن تضمن شيئاً فيها.

كنت تستعد لإصدار كتاب عن المقاومة بوصفها حرباً أهلية، هل أوقفته؟

لا. اليوم، أنا مشغول بمشروع كتاب آخر بمثابة قراءة لتاريخ العرب الحديث في القرن العشرين، من زاوية أن العنصر الحاسم والمقرر للسلوك العربي كان عدم قبول فكرة الغلبة الغربية للمنطقة، فنحن لم نقدر أن «نهضم» حقيقة أن الاستعمار تدخّل في حياتنا الخاصة، ولم نقدر أن نتكيف مع واقع أنه متقدم علينا، رغم أنه يرسم مساراتنا أكثر من التناقضات الأخرى كافة.

أبرز مؤلفاته:

«أول العروبة»- 1993، «تعريب الكتائب اللبنانية» - 1991، «ثقافات الخمينية» - 1995، «دفاعاً عن السلام» - 1997، «العرب بين الحجر والذرة» - 1992، «قوميو المشرق العربي» - 2000، «الهوى دون أهله» - 1991، «وداع العروبة» - 1999، «مأزق الفرد في الشرق الأوسط: تحرير، مجموعة من الكتاب»، «بعث العراق - سلطة صدام قياماً وحطاماً» - 2003، «تصدّع المشرق العربي» - 2004، بمشاركة صالح بشير، «نواصب وروافض} – 2009.

back to top