«الميدياقراطيا» تحكم مصر
في شهر مارس الماضي، كشفت جهات تحقيق أميركية عن ضلوع شركة "مرسيدس بنز" في قضية رشوة عابرة للقارات، شملت مسؤولين في أكثر من 20 دولة، حصلوا على أموال غير مشروعة من الشركة بغرض فتح أسواق لها في بلدانهم.وعلى الفور تلقفت وسائل الإعلام المصرية تلك الأنباء ونشرتها باهتمام كبير، خصوصاً أن مصر كانت دولة من بين تلك الدول، حيث كشفت وثائق لدى جهات التحقيق الأميركية أن مسؤولاً مصرياً كبيراً حصل على رشاوى من الشركة في الفترة من 1998 إلى 2004، لتسهيل عملها وزيادة مبيعاتها من السيارات والمحركات وقطع الغيار. ولذلك فقد كان من الضروري أن يصدر رد فعل حكومي سريع لتبرئة ساحة الحكومة وتهدئة الرأي العام وطمأنته على أن الدولة تحمي حقوقها وتحارب الفساد بين موظفيها مهما كانت المناصب التي يشغلونها. لكن رد الفعل المنتظر لم يقع، وكأن خطة الحكومة كانت تعتمد على امتصاص العاصفة من دون اتخاذ الإجراء اللازم، رغم أن وسائل التعرف إلى اسم المسؤول المعني شديدة السهولة، لأنه كان يعمل من خلال شركة مسجلة ومعروفة الاسم، كما أن التعاقدات التي أجرتها الحكومة مع الشركة خلال تلك الفترة يمكن رصدها في وقت يسير وتحديد المسؤولين عن إبرامها أو تسهيلها.
لم يمر الأمر على النحو الذي بدا أن الحكومة أرادته؛ فقد واصلت وسائل الإعلام قصفها الحاد للمسؤولين عبر برامج "التوك شو" ومقالات الرأي النارية في الصحف، إلى درجة يبدو أنها أجبرت الحكومة على اتخاذ إجراء، وهو ما حدث يوم الخميس الماضي حين طلب النائب العام من الجهات المعنية جميع المعلومات المتعلقة بالصفقات مع "مرسيدس" للكشف عن المسؤول المتهم بالرشوة. في اليوم نفسه، كانت الأنباء المتداولة في مصر تشير إلى أن وزير الري والموارد المائية قطع زيارة إلى هولندا، وعاد على عجل إلى بلاده، لمتابعة نتائج اجتماع يجري في أوغندا بين بعض دول حوض النيل بهدف توقيع اتفاق قد يمس بحصة مصر المائية.سافر الوزير إلى هولندا وهو يعرف أن وضع مصر المائي حرج بعد فشل اجتماع دول الحوض في شرم الشيخ في التوصل إلى اتفاق مرض للجميع، كما كان يعرف أن اجتماع أوغندا سيعقد في هذا التوقيت تحديداً، وأن النتائج التي سيتمخض عنها ستكون خطيرة، لكن هذا لم يدفعه إلى تغيير خططه، إلى أن واصل الإعلام قصفه وتعريضه بالحكومة التي تركت موضوعاً مصيرياً كموضوع المياه في يد مسؤولين عجزوا عن إدارته بالشكل اللائق. ولذلك، فقد عاد الرجل ضمن حزمة أخرى من الإجراءات هدفت إلى تهدئة القصف الإعلامي وإطلاع الرأي العام عبره على "جهود مثمرة" تبذلها الحكومة لاحتواء تداعيات استهداف بعض دول الحوض للحقوق المائية المصرية.كانت مصر تصدر الغاز لإسرائيل ودول أخرى وفقاً لاتفاقيات طويلة الأجل، بأسعار تقل عن السعر العالمي، مما كبدها خسائر كبيرة، إلى أن تدخل الإعلام وضغط على الحكومة لتعدل العقود مع كل من إسرائيل وفرنسا وإسبانيا.ونحن نعرف أن إسرائيل ودولاً أخرى حصلت على الغاز المصري لسنوات بأسعار غير عادلة، وأنه لولا أن قوى وطنية وجماعات مصالح مؤثرة وجدت طريقاً إلى وسائل إعلام نافذة، وزودتها بمعلومات ورؤى عن هدر ثروة الغاز، ولولا أن تلك الوسائل شنت حملة قوية ضد السياسة المتبعة في تصدير تلك الثروة، لما أقدمت الحكومة على تعديل الأسعار ووقف نزيف الخسائر.تمثل الحالات الثلاث السابقة أفضل تجسيد ممكن لتفشي ظاهرة "الميدياقراطيا" Mediacracy في مصر، وتحولها إلى آلية مستقرة، تفسر بكثير من الوضوح العديد من التفاعلات السياسية التي تحصل في هذا البلد.وبحسب تعريف بعض الباحثين والمحللين، فـ"الميدياقراطيا" هي "حكم الميديا ووسائلها"، أو هي "الحكم غير المباشر بوسائل الإعلام الشعبية، بسبب اضطراب يعتري الديمقراطية، وهي نظام يتوقف فيه الساسة عن التفكير، ويكتفون بمتابعة وسائل الإعلام في ما يتعلق بتحديد ماهية القضايا الكبرى، وما الذي يتوجب عليهم فعله بشأنها". وفي "الميدياقراطيا" تفقد الدولة الرخوة الرؤية، وتتخلى عن الاستراتيجية والأهداف الواضحة والمواقف المتبلورة والمتسقة، وتتخبط الحكومة، التي يفتقد بعض أعضائها الكفاءة والنزاهة والقدرة السياسية، ويتحول الجهاز البيروقراطي تنيناً ثقيل الحركة مسلوب الإرادة مكرساً الاهتمام بالشكليات والإجراءات عاجزاً عن الإنجاز والتطور. وتُفرغ الممارسة السياسية من مضمونها، ويتحول البرلمان كياناً كارتونياً هزلياً، ويفقد الجمهور الثقة بأي شيء، فلا يبقى له سوى بعض وسائل الإعلام الشعبية، التي تحاول سد الفراغ الذي نشأ عن غياب الفعاليات الممثلة في مؤسسات الدولة والمعارضة والمجتمع المدني.يخاطب أعضاء البرلمان الجمهور عبر وسائل الإعلام مباشرة، وليس تحت القبة باستخدام الأدوات البرلمانية المتاحة، وتختصر الفصائل المعارضة جُل أنشطتها ونضالها السياسي في صحف ومواقع إلكترونية وقنوات فضائية، ويصرف المجتمع المدني كل جهوده إلى وسائل الإعلام ليروج لأنشطة تفتقد الاهتمام أو الثقة، وتسيطر الحكومة على وسائل الإعلام العامة وتسخرها لغسل سمعتها والترويج لها وتحقيق أهدافها، ثم تشتري مساحات في وسائل أخرى، أو تستخدم أدوات القمع الخشنة لإخضاعها لإرادتها.لا يجد الجمهور كياناً على الأرض قائماً يتحلى بالثقة والقدرة على الفعل الحقيقي، فيلجأ إلى وسائل الإعلام الشعبية طالباً عرض المشكلات وطامحاً إلى تحقيق الخلاص أو كسب المعارك.يُغرق الفساد وانعدام الكفاءة الجميع، فلا يتجسد الخلل أو تنكشف الجريمة أو يحق الإصلاح والمداراة أو يتوجب العقاب، إلا إذا تم النشر عبر وسائل الإعلام. وكأي رب بيت معدوم الضمير، لا يرى النظام العام أن الأخلاق أو الإنجاز أو الكفاءة أو الشرف قيم تُرجى لذاتها، ولكن دفن الفضائح أو التشويش عليها والتمويه على الروائح النتنة هو الهدف الوحيد الذي يستحق بذل الجهد والاهتمام."الميدياقراطيا" كانت نافذة على الدوام ومهيمنة على الأحداث؛ حدث ذلك في قضية "التوريث" ويحدث، وقضية "سوزان تميم"، والاعتصامات والاحتجاجات العمالية التي تتواصل كل يوم مستهدفة الظهور في الإعلام ولا يتحرك أحد لاحتوائها إلا تحت ضغطه.تحولت وسائل الإعلام الشعبية في "الميدياقراطيا" المصرية من سلطة رابعة، كما كان مفترضاً، إلى سلطة عابرة للسلطات، رغم ما تنطوي عليه من عوار واختلالات في الأداء. أما الخطر فيكمن في أن تلك "الميدياقراطيا" بدأت بتكريس سلطتها وجني الأرباح الناجمة عن تعاظم دورها وافتئاته على أدوار السلطات الأخرى، وتحول بعض نجومها إلى مسؤولين سياسيين أقاموا مؤسسات للمحاسبة والرقابة والضمان والإرشاد وتصفية الحسابات على الهواء، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة على مؤسسات الدولة وعلى صناعة الإعلام.* كاتب مصري