يتعاطى المراقبون مع استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان كواحدة من "المفارقات الغريبة وغير المفهومة" سياسياً في الحياة العامة اللبنانية المليئة بالتناقضات.

Ad

فاللافت أن هذه الانتخابات التي تبدأ جولتها الأولى بعد عشرة أيام تتم في ظل انقسام سياسي حاد بين الفرقاء اللبنانيين لم تنجح حكومة الوفاق الوطني، التي شكلت بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، في ردم هوته عمليا، على الرغم من أن معظم الفرقاء السياسيين والحزبيين الأساسيين ممثلون في الحكومة وموجودون على طاولة مجلس الوزراء.

ولعل أبرز ترجمات فشل "الوفاق السياسي" يتمثل في السجالات التي تبدأ بمفهوم الاستراتيجية الدفاعية ودور سلاح "حزب الله" ولا تنتهي بمفهوم الإصلاح الإداري والتوجهات الاقتصادية والسياسات الإنمائية والاجتماعية للدولة اللبنانية، وهو ما انعكس فشلا في مقاربة ملف التعيينات الإدارية وتأخيرا في إقرار الموازنة العامة للدولة وغيرها من الملفات.

ومع ذلك، فإن الذين كانوا قد أبدوا في أكثر من مناسبة مخاوف من أن تتحول الانتخابات البلدية والاختيارية، في ظل هذا الشرخ الحاد في المفاهيم بين الجهات السياسية اللبنانية، إلى مادة صراع شعبي على مستوى المدن والأحياء والقرى والبلدات اللبنانية يسيء الى الاستقرار، يعترفون بأن الواقع يختلف تماما عن المخاوف السابقة، بدليل التجاهات "التوافقية" ليس فقط بين الحلفاء السياسيين، وإنما بين المتخاصمين سياسيا المختلفين جذريا في مقاربة أكثر الملفات السياسية والاقتصادية والإنمائية حساسية ودقة.

فإذا كان التفاهم الشامل بين حركة أمل و"حزب الله" مفهوما في الجنوب والبقاع والقرى الشيعية في لبنان، وبين الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الديمقراطي اللبناني وبعض الفعاليات السياسية الدرزية في مناطق الشوف وعاليه وحاصبيا وراشيا، فإن المفاجأة الحقيقية تمثلت في المناخات "التوافقية" بين القوات اللبنانية وحزب الكتائب وغيرهما من الشخصيات المستقلة التي تحالفت بعضها مع بعض في الانتخابات النيابية الأخيرة من جهة والتيار الوطني الحر وحلفائه وفي مقدمهم حزب الطاشناق الأرمني من جهة مقابلة، خصوصاً في معظم مناطق جبل لبنان الشمالي باستثناء جبيل. كما تمثلت المفاجأة في الأجواء التوافقية التي برزت في مدينة صيدا بين تيار المستقل وحلفائه من جهة، والتنظيم الشعبي الناصري وحلفائه من جهة مقابلة.

وفي غياب القراءة السياسية الموحدة، والمقاربات الإنمائية والاقتصادية الموحدة للمتوافقين بلدياً واختياراً يجمع المراقبون على أن العنصر الأكثر تأثيرا في دفع المتخاصمين إلى تلافي المعارك الانتخابية الطاحنة يكمن في عدم توافر الممولين لمعركة انتخابات بلدية واختيارية بخلفية سياسية على المستوى الوطني الشامل.

وفي رأي المراقبين المتابعين عن قرب لمسار التطورات الانتخابية فإن أيا من الجهات الخارجية المعنية بالوضع اللبناني والمؤثرة فيه، والداعمة لفرقائه سياسيا وماليا لم يُبدِ حماسة لتمويل معارك انتخابية لن تقدم ولن تؤخر في موازين القوى السياسية القائمة في لبنان بفعل التطورات المؤثرة في الوضع اللبناني إقليميا ودوليا، لاسيما لناحية التفاهم السعودي السوري، ولناحية المفاوضات السورية الغربية المفتوحة خطوطها ولو بالتزامن مع لعبة شد حبال وعض أصابع بين دمشق وأكثر من عاصمة غربية.

من هنا فإن غياب "المال الانتخابي" عن الساحة اللبنانية في هذه المرحلة دفع الفرقاء السياسيين والحزبيين المعنيين بالمواجهات الانتخابية إلى الإقرار بصعوبة تسييس هذا الاستحقاق الانتخابي، وجعلهم يعتمدون شعار "الواقعية السياسية" الذي يتردد على نطاق واسع في أكثر من مطبخ قرار حزبي وسياسي في لبنان، في حين أن التبرير المباشر الذي يبلغه القادة الحزبيون والسياسيون لأنصارهم المستفهمين عن سبب التحولات المفاجئة في التحالفات يقول باستحالة خوص معارك ومواجهات انتخابية في ظل "انعدام مقومات المعركة وعناصرها"، وهي الترجمة اللبقة والدبلوماسية لامتناع "الممولين الكبار" عن مدهم بالمال مما يدفع بهم إلى تمرير الاستحقاق بـ"التي هي أحسن" وتجاوز "القناعات" و"المبادئ" نحو براغماتية يفرضها أمر واقع غير قادرين على تغييره.