«الكتابة هي النسيان. الأدب هو الطريقة الأكثر امتاعاً لتجاهل الحياة» هذا ما كتبه ذات يوم، فرناندو بيسوا في كتاب اللاطمأنينة. لكن ما الذي يرمم النسيان، ما الذي يملأ مساحة الذهب، البيضاء تلك؟ قوّة المخيّلة، أقول. قوّة المخيلة وهي تقترب من سطوة الغياب والموت، تماماً مثل ضبابٍ خفيف يلامس الأعماق. لكي نقترب أكثر من هذه الفكرة، دعونا نتأمل قصة للكاتب الأرجنتيني، خوليو كورتثار، كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد، احتوتها مجموعته القصصية، (الأسلحة السرية). يتحدث الكاتب عن عازف جاز موهوب، (آلة الساكسفون) يتعاطى أساليب العيش بنوع من البوهيمية واللامبالاة المفرطة، فيعزف بنشاز أحياناً، لكن ذات مرة وفي حالة تجلّ كامل، يقدم العازف نغمات موسيقية، تصل الى حدود المعجزة. عندما يُسأل عن هذا السر، يكتفي الموسيقي بالقول، ما معناه، انه لم يكن حاضراً، لأنه أحس في لحظة التجلي تلك، بأنه كان ميتاً. كان يرى نفسه وهو يركض في مقبرة شاسعة، لينبش القبور، واحداً بعد الآخر، بحثاً عن جثته هو. لقد وصل الموسيقي الى لحظة نسيان تكاد تقترب من لحظة الموت، وكان قد أغمض عينيه، كأنه لم يعد ينتمي الى هذا العالم، فأنبثق اللحن السحري من نقطة بيضاء، من جذر النسيان، بقوة مخيلة كورثتار. بالمناسبة كان كورثتار في حياته عازف جاز أيضاً وعلى نفس الآلة.

Ad

ما الذي جعل شاعراً كهنري ميشو يقول هذه العبارة المخيفة: «إن مجرد التفكير في كتابة قصيدة يكفي لقتلها»، أليس الخوف من استعادة ذاكرة قبلية، وبتخطيط مسبق، وبالتالي اعاقة الوصول الى منبع النسيان؟ ألم يقل ابن عربي، امح ما كتبت، وانس ما قرأت. ألا يذكّرنا هذا أيضاً بموقف أبي نؤاس، بشأن حفظ الأبيات الشعرية ثم نسيانها؟ ثم أليس وهو الشاعر المديني المجدد الذي أحدث تلك القطيعة الساخرة مع ذاكرة الأطلال.

ينبغي ألا يُفهم من كلامي، بأن الكتابة، تأتي من مطرحٍ خالٍ من التجربة، بل على العكس، من التجربة وقد تشذّبت، والذاكرة وقد تصفّت، والنسيان وقد نضج. بحيث تقف نيموسين ـ آلهة الذاكرة الاغريقية، وأم آلهة العلوم والفنون جميعاً ـ أقول تقف هناك على الباب، لتلقي عليك أخيراً، تحية المرور الصادقة. هل يمكن للنسيان أن يكون مميتاً، أو عائقاً للكتابة؟ أجل. عندما يكون بلا فاعلية، عندما يصبح النسيان أرضاً غير خصبة للذاكرة والمخيلة. تعلمنا التجربة دائماً أن نعيش الكتابة، فيها ومعها، أن نعيد اجتراحها بأكثر الأساليب صدقاً وحرية وشراسة أيضاً. في هذا المقام تفيدنا، الاوديسا، لهوميروس في جزئها المتعلق بمغامرة عودة أوديس الى وطنه وزوجته بنيلوب، التي تجمع حول باب بيتها الخطّاب. يتعرض أدوديس لمصائب كبيرة وكثيرة، نذكر منها واحدة مما يعنينا هنا. عندما يصل أوديس وأصحابه الى جزيرة «آكلي اللوتس» فيذهب أصحابه الى اللهو وأكل اللوتس الى أن يصابوا بلوثة النسيان، أعني نسيان وطنهم والمقصد من الرحلة. لكن أوديسيوس الذي يلعب هنا دور الذاكرة، يذهب اليهم ويحثهم على الكف عن ذلك والعودة الى السفن ومواصلة الرحلة، وهذا ما يحدث. لعبت الذاكرة هنا، دور المنقذ، لكن لنتخيل أن أوديسيوس شارك أصحابه في أكل اللوتس، أكان سيعود الى وطنه وينتقم لزوجته؟

ها أنتم ترون معي أن شجرة الذاكرة، تنمو في جزيرة النسيان تلك. هكذا أيضاً يعود الكاتب الى وطنه (الكتابة) ـ وهل من وطن آخر للكاتب غير الكتابة؟ بعد أن مرّ من جزيرة النسيان.