الاستقلال الثاني... و 7 أيار الإيراني

نشر في 29-06-2009
آخر تحديث 29-06-2009 | 00:00
 محمد صادق الحسيني لاشك أن الاستحقاق الانتخابي أصبح وراءنا، ولاشك أن إيران ستتعافى من أثر الصدمة التي تعرضت لها بسبب دخول أرباب «الثورة الرقمية» أو المخملية على خط الأزمة، وما تبع ذلك من تداعيات وتشظ على الساحة الداخلية.

لكن ما حصل لم يكن مجرد استحقاق انتخابي سهل، ولا هو مجرد تحريض على «ثورة» رقمية أو مخملية فحسب، بل كان ثمة شيء أبعد من ذلك استدعى على ما يبدو عملية جراحية ضرورية هي أشبه ما تكون بـ«7 أيار» لبناني، ولكن على الطريقة الإيرانية، وذلك بسبب تقاطع استحقاقات مراجعات داخلية عميقة مع مخطط خارجي خطير قد يهدد تلاقيهما عصب النظام والثورة.

فلم يكن الأمر سهلا أن يودع في عام 2005 صف كامل من الطبقة السياسية التي تداولت السلطة على مدى نحو عقدين ونصف تحت رعاية أركان أساسية من الرعيل الأول، مطبخ صناعة القرار الأساسي للدولة لمصلحة الجيل الثاني للثورة حتى إن حصل ذلك على يد أحد أركان ورموز الرعيل الأول ممن وصلت إليه دفة القيادة بشكل سلس ومتصل بكل سياقات التأسيس الأول أي المرشد آية الله علي خامنئي.

كان هذا هو بالضبط ما حصل منذ أربع سنوات عندما فاز المرشح محمود أحمدي نجاد ابن الحداد البسيط والعائلة الفقيرة غير المعروفة في أرشيف أسماء العوائل الأرستقراطية ولا الثيوقراطية ولا حتى الميسورة الحال ممن رافقوا مرحلة التأسيس للثورة التحررية، وتحقيق الاستقلال الناجز لإيران الدولة العصرية الحديثة في العام 1979.

فمنذ تلك اللحظة المفصلية في تاريخ إيران الحديث والمراجعات النظرية والعملية لقاموس المصطلحات الثورية الإيرانية التي كانت قد بدأت أصلا منذ «تسلل» جوقة المتدثرين بعباءة الرجل الإصلاحي والمعتدل محمد خاتمي إلى مطبخ صناعة القرار، ومن معهم من المتقمصين رداء الإصلاح، قد دخلت عمليا مرحلة جديدة كان النقاش فيها يصل أحيانا لدى بعضهم إلى حد المطالبة بمراجعة جذرية، حتى لمقولة ولاية الفقيه نفسها، وليس الاختلاف مع شخص المرشد فحسب.

من هنا سرعان ما تحول ليس محمد خاتمي فحسب، بل كل من كانوا وراءه أو اصطف معه من نخب وتكنوقراط وعوائل أدمنت تداول السلطة منذ نهاية السبعينيات إلى «حرس قديم» مترهل ينبغي إزاحتهم عن مركز صناعة القرار الرئيسي خوفا على إسلامية الثورة، بينما صار الرجل البسيط الخارج من «ريف» الثورة هو رائد الإصلاح و«البطل القومي» الضرورة الذي يمكن به فقط الدفاع عن الثورة والدولة، فضلا عن النظام والمشروع كما يقول أصحاب «7 أيار» الإيرانية.

وهكذا فقد كانت إيران يوم الثاني عشر من حزيران/ يونيو الماضي عمليا على موعد مع استحقاقين عظيمين: الأول داخلي، وهو إنجاز انتخاباتها الرئاسية العاشرة، تحت هذا العنوان العريض أي: تكريس البطل القومي القادم من «ريف» الثورة لمكافحة الفساد الإداري والمالي والاقتصادي والتمييز، على حساب أرستقراطية الحرس القديم.

واستحقاق خارجي كان يعبر عن لحظة صدام تاريخية قرب أجلها بين الغرب العاجز عن كسر إرادة الثورة والدولة الإيرانيتين سواء بخيار الحرب أو بخيار السلام، وبين ثورة أصبحت دولة قوية الشوكة عصية على التطويع تعيش قيامتين دينية وقومية بفضل تلاقي وظيفتي ابن الثورة وابن النظام في نقطة «عرين الولاية» المتوجة باسم آية الله علي خامنئي بمنزلة «لينين» الإسلام السياسي الخميني.

وكان المسرح يبدو كالآتي:

الذين خاضوا الانتخابات الرئاسية العاشرة ضد أحمدي نجاد ممن صار يطلق عليهم بالمعارضة، كانت استطلاعات الرأي التي لديهم تقلقهم كثيرا، وتشير إلى أنهم وفي أحسن الأحوال وأحسن الأداء من جانبهم لن يحصدوا أكثر من الدفع بالرئيس الحالي إلى المرحلة الثانية.

هذا من ناحية لكنهم من ناحية ثانية كانوا مسكونين بقوة بخطورة آثار بقاء أحمدي نجاد لدورة رئاسية ثانية، الأمر الذي كانوا يصفونه في أروقتهم الداخلية ووراء الكواليس بأنه الكارثة الكبرى والوداع النهائي لهم مع مطبخ صناعة القرار.

لذلك كانت حملتهم الانتخابية وبشكل مبكر تركز على «شيطنته» على كل المستويات، وفي كل الأبعاد منعا لوقوع «الكارثة» بأي ثمن كان.

أما الغرب الذي كان يخطط للثورة الرقمية أو المخملية أو الملونة ضد النظام وكما كشفت تقارير غربية عديدة، وآخرها ما نشر مفصلا على موقع معهد بروكينز، فقد كان مستعدا أشد الاستعداد لركوب موجة «الشيطنة» كما موجة المعارضة بالطبع، وقد بدأ استعداداته مبكرا من خلال التسلل المنظم داخل قلب صفوف المعارضة كما ستثبت الأيام، بالإضافة إلى أنه كان مستعجلا، ولم يكن لديه الوقت الكافي لينتظر مدى استجابة النظام ليده «الحوارية» بسبب استحقاقات إقليمية ودولية عديدة لإدارة أوباما «التغييرية» الجديدة، لذلك تراه أرسل مبكرا الرجال والعتاد والأدوات التكنولوجية، بل حتى القناصة على الأسطح كما ستثبت التحقيقات التي بدأت تتسرب من بعض قوى الأمن والشرطة، متوجا ذلك كله بإمبراطورية إعلامية ضخمة مدججة بكل أشكال التمويه والدجل والافتئات والافتراء والكذب والخداع وتركيب الصور، والتي ستثبت الأيام أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، كيف ومن قتل السيدة ندى آقا سلطان التي تناقلت صورها وكالات وفضائيات إمبراطورية «عاجل» المفترية؟!

لذلك فإن من أراد ولايزال مصرّاً على تصوير ما حصل من مناوشات بين تجمع لجان وروابط الدفاع عن الأحياء الشعبية المعروف باسم «الباسيج» أي التعبئة وبين مجموعات الشغب ومشعلي الحرائق بأنه صدامات بين قوى السلطة القمعية والمتظاهرين المعترضين على نتائج الانتخابات إنما كان يعمل في إطار لعبة أكبر منه بوعي أو من دون وعي، لإظهار النظام الإيراني وكأنه الصين في واقعة «تيان آن مين» أو استفزاز أجهزته الأمنية لارتكاب مجزرة ما ضد المتظاهرين.

ولما كانت أجهزة الثورة الإيرانية وفي مقدمتها الحرس الثوري ظلت ملتزمة بالأوامر الصارمة القاضية باحترام المتظاهرين وعدم التصادم معهم مطلقا، واعتماد منهج الفصل الكامل من جهة بين جماعات الشغب ومشعلي الحرائق، وبين جمهور المتظاهرين من أنصار المرشحين، والإقدام الصارم والقاطع من جهة أخرى، ضد رؤوس الفتنة ومحركيها الأساسيين ممن تسللت إليهم الثورة الرقمية للعدو أو وقعوا في أفخاخها بسبب سذاجتهم السياسية، فقد كانت واقعة «7 أيار» اللبنانية شر لابد منه مع اختلاف الحيثيات والظروف وأشكال الاصطفافات الخاصة بالطريقة الإيرانية كما يصف أحدهم وقائع الأسبوعين الماضيين.

لقد استخدموا كل أشكال الكذب المتصور للإيقاع بين أجنحة أو أطياف المجتمع كما الطبقة السياسية الحاكمة من أجل تصوير الأمر وكأنه ثورة في الثورة أو ثورة على الثورة، وشكلوا خلايا أزمة في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية، ووظفوا كل إمبراطوريات الإعلام الخبيث والحاقد من أجل زعزعة الدولة والمجتمع الإيرانيين، لكنهم باؤوا بالفشل وانكسروا جميعا، وانتصرت إيران بسبب الفطنة والتيقظ المبكر من جانب مختلف القيادات الوسطية والعليا، وهكذا يكون قد خرج النظام والرجل الأول فيه، اي، آية الله علي خامنئي بشكل خاص أكثر قوة من ذي قبل، والأيام ستثبت ذلك عندما سيضطر الغرب صاحب الثورة الرقمية للإذعان لمفاوضات متكافئة مع طهران قريبا.

ولذلك ترى ثمة من لخص الاستحقاق الانتخابي الثلاثين في إيران، حيث اشترك فيه نحو 40 مليون ناخب أي 85 في المئة ممن يحق لهم الاقتراع، وهو ما يحدث لأول مرة منذ قيام الثورة الإيرانية، وما رافقه من هزيمة للثورة المخملية المنشودة غربا بأنه بمنزلة «الاستقلال الثاني» لإيران، فيما اعتبره أنصار أحمدي نجاد بمنزلة الثورة الثالثة، باعتبار أن الثورة الثانية كانت احتلال السفارة الأميركية كما ورد على لسان مؤسس الثورة الأولى الإمام روح الله الخميني.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني

 

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top