بلاد الاربعة
في بلد بعيد... بعيد جداً، غير مرسوم في الخرائط، وليس مذكوراً في أي كتاب، ولا علاقة له، من أي نوع، بأي بلد عربي... التقيت مجموعة من الرجال في مقهى العاصمة الوحيد. ربما يسأل سائل عن الهدف أو الدافع لوصولي إلى مثل ذلك البلد البعيد...
أقول إن الأمر تم بالمصادفة، حتى أنني لا أعرف كيف أو لماذا وصلت. هكذا... وضعت حرف جر غير مكرر (وإلا لكان راقصة) وألحقت به الميم والقاف والهاء والألف المقصورة، فتم لي الجلوس «في مقهى»... والحقيقة الصرف هي أنني فكرت في البداية بإسقاط طائرة كنت على متنها، لكنني قلت لنفسي: علام التحطيم وقتل الناس، ما دمت في النهاية سأنجو لأكمل الحكاية، وما دام بإمكاني الوصول إلى ذلك البلد بكتابة العبارة على الوجه التالي:«التقيت مجموعة من الرجال في مقهى العاصمة الوحيد»؟أنا حر في أن أصل إلى أي بلد وبأي طريقة، ومن دون إبداء الأسباب، وبشكل غامض ومبهم ومسدود المسالك على كل سؤال.وللمناسبة... فإن أول ما خطر لي هو استطلاع أحوال الحرية هناك... أوَ ليس هذا هو ما يشغل بال كل واحد منا عندما تقذفه ظروف التأليف أو التلفيق من جنة بلاده الحرة إلى مثل ذلك البلد البعيد؟!سألت واحداً من الرجال، وأنا أرتشف الشاي الذي كان بلا طعم! قال بوقار غير مصطنع: أنت غريب من دون شك... شاينا هو شاي المواطَنة الصالحة. إنه خالٍ من الكافين لأنه منبه، وخالٍ من السكر كي لا يجعلنا حلوين أكثر مما ينبغي.صدمتني إجابة الرجل، وحرَّضتني على استطلاع حال الناس. فإذا كان الشاي يُعامَل بهذه الطريقة، فكيف يعامل المواطن؟!قال لي الرجل: المواطنون عندنا، والحمد لله، أربعة أنواع: إما عبد، وإما مأمور، وإما عبد مأمور، وإما عبد المأمور.سألته مشفقاً: وأنت من أي نوع؟قال: أنا مأمور.سألته: لماذا؟قال: لأنني عبد.سألت رفيقه: وأنت؟قال: أنا مثله... تخرجنا في مدرسة واحدة.قلت: أعندكم مدارس؟!قال: مدارس كثيرة... «السجن مدرسة».قلت: في بلادنا... «الأمّ مدرسة»!قال: وعندنا أيضاً ما يشبه ذلك... «لأمّ في المدرسة»... السجن ليس حكراً على أحد.جميع المواطنين يجب أن يكونوا متعلمين.سألت الرجل الثالث: وأنت؟ من المدرسة نفسها؟قال: لا. أنا من مدرسة أخرى. أنا عبد.سألته: لماذا أنت عبد؟قال: لأنني مأمور.ذهلت لهذا التقسيم الطبقي الملتبس، فسألت الرجال: ما الفارق بين الاثنين؟!قال لي أحدهم: المأمور لأنه عبد هو النشط الذي يقوم بالخدمة حتى قبل أن يسمع الأوامر... أما العبد لأنه مأمور فهو الذي ينتظر حتى يسمع الأوامر. لا فارق كبيراً بين الاثنين، إنه كما ترى قليل من الكسل.أشرت إلى النادل بإصبعي فأقبل كالريح، فخمَّنت أنه من الفئة النشطة قلت له: قدح ماء رجاءً.قال بأدب كثيف: الماء موجود في الشاي يا سيدي... بلدنا في حالة تقشُّف، ولسنا مترفين إلى حدِّ وضع كل منهما في قدح منفصل.بلع ريقه، وأردف: ثم إنني أرجوك وأقبل قدميك... لا تقل لي «رجاءً» مرة ثانية. إذا رجوتني فسيدخلونني المدرسة مجدداً. سيقولون إنني تجاوزت طبقتي... أرجوك يا سيدي... ما أنا إلا عبد المأمور. سألته: ومَن المأمور؟قال: هو سيدي صاحب المقهى.قلت للعجوز الوقور الجالس إلى جانبي: أأنا في حلم أم في علم؟!قال: أنت في علم يا سيدي.قلت وأنا أشعر بغيظ الدنيا كله: كيف ترضون بهذا الواقع؟قال مستغرباً: لماذا لا نرضى؟ هكذا خلقنا.صرخت به: كلا... لقد خلقكم الله أحراراً. أنتم أحرار... عليكم أن تُغيِّروا هذا الواقع.قال: كيف نغير هذا الواقع؟قلت: بالقراءة... ثقِّفوا أنفسكم... إعرفوا حقوقكم.سأل: ماذا نقرأ؟ قلت: الدستور. قال: لا يوجد دستور. قلت: الكتب. قال: لا توجد كتب. قلت: انشروا كتباً. قال: نشر الكتب ممنوع. قلت: انشروا آراءكم في الصحف. قال: الصحيفة الوحيدة لدينا لا تستخدم الحروف، لأنها لا تؤمن بالكتابة... إنها عبارة عن صفحة واحدة تحمل صورة سيدنا «العبد الأعظم».تساءلت بذهول: أعظم؟ كيف يكون أعظم وهو عبد؟!قال: العبوديّة مقامات يا سيدي... عبودية سيدنا الأعظم مستوردة من الدول العظمى.هتفت به: إذاً... أصرخوا.قال: عيب أن تقول هذا يا سيدي. بلدنا في حالة تقشف، وهو يحتاج إلى كل ما يمكن من الهدوء والسكينة.أخذني الغيظ بعيداً... قلت للرجال: سأصرخ نيابةً عنكم.قال العجوز الوقور: إذا شئت أن تكون مواطناً صالحاً وسالماً في الوقت نفسه، فإنني أنصحك يا سيدي بالتزام الهدوء والسكينة. إذا صرخت فستقلق راحة البلد، وعندئذ سيحملونك إلى «المدرسة».صرخت باستنكار: ومَن قال لك إنني أريد أن أكون مواطناً صالحاً مثلكم؟!قال: يجب أن تكون. فالقاعدة هنا هي أن تكون مواطناً صالحاً، أو مواطناً مقتولاً.. هل تريد أن تُقتَل؟!صحت به غاضباً: كلا... أريد أن أرحل.رفع عينيه نحو السقف، وراح يربت على الطاولة، مرسلاً صفيراً خافتاً متقطعاً، ثم قال كالمتشفِّي: لن تستطيع أن ترحل... السفر ممنوع.ضحكت ضحكة باردة هازئة: هذا ما تظنه... لا أحد يمكنه منعي من السفر... أنا رجل حر من بلاد حرة.أخرجت قلمي ودفتر ملاحظاتي، ففغر الرجال أفواههم، وأبعدوا أيديهم عن الطاولة بسرعة خوفاً من التلوث بهاتين التُّهمتين.قلت وصدري ممتلئ بالفخر: انظروا... ما دام لدي قلم ودفتر، فلا أحد في الأرض يمكنه منعي من أي شيء... انظروا...وكتبت بسرعة: «... وبشكل ما، استطعت الفرار من ذلك البلد البعيد المخيف».أف... كلما تذكرت تفاصيل لقائي بمجموعة الرجال في مقهى العاصمة الوحيد في ذلك البلد البعيد، تنفست الصُّعَداء، وأغمضت عينيّ، ووضعت يدي على قلبي شاكراً السماء على أنني لم أُخلَق أو أَعِشْ في بلد مثل ذلك البلد.عجيب أن يحيا المرء في بلد مواطنوه أربعة: عبد، أو مأمور، أو عبد مأمور، أو عبد المأمور!أليس ذلك عجيباً؟! • شاعر عراقي