أخيرا انتهى الماراثون «التشريعي» في إيران وولدت حكومة نجاد بعد أخذ ورد داما خمسة أيام، تحدث خلالها نحو 128 نائبا بين موافق ومعارض، حتى قضي الأمر وانتخب 18 وزيرا من بين 21 وزيرا رشحهم أحمدي نجاد بينهم امرأة هي المرة الأولى التي يتم انتخابها رسميا منذ بداية الثورة.
لم يتدخل المرشد الأعلى لمصلحة نجاد، ولم يرش نجاد النواب بالأموال، ولم يخفف النواب من معارضاتهم تحت وطأة احتمال تعرضهم لضغوط خفية، ولم يتوقف الماراثون السياسي الجدي والقاسي جدا، الذي وصل في بعض الأحيان إلى درجة كادت أن تطيح بالحكومة كلها، رغم كون الأكثرية النيابية من حصة الأصوليين، ولم ينحن أحمدي نجاد للحظة أو يطلب المساومة من أحد. أليست هذه كلها من مظاهر «الديمقراطية» التي تتغنى بها عواصم الغرب العريقة، والتي تفقتدها العديد من عواصم المنطقة والإقليم، فيما كانت وسائل إعلامها المرئي والمسموع والمكتوب تشن حملة منظمة طوال فترة الماراثون هدفها التشويش على هذه التجربة الحيوية باتجاهين:الأول: أن ثمة صراع تكسير عظام بين البرلمان والحكومة سببه تضاؤل مشروعية نجاد في الشارع الإيراني. الثاني: أن ثمة قوى خفية يقف في طليعتها المرشد ستتدخل في اللحظة الأخيرة لحسم «النزاع الظاهري» لمصلحة التصويت «بالجملة» لحكومة نجاد إن لم يكن بالرشوة فبالقوة. لكن الماراثون ظل مستمرا باندفاعة غير مسبوقة في تاريخ مناقشة الحكومات في إيران، وأي من هذين الأمرين لم يحصل. فالحكومة وإن نالت الثقة بالمجموع بأكثرية مريحة، إلا أن أي متتبع متخصص لتفاصيل التصويت سرعان ما سيكتشف أن نيل الثقة لمن نالها، وعدمه لمن فشل في الحصول عليها لم يكن إلا على قواعد وأسس مهنية محضة تتعلق بشكل رئيسي بالكفاءة والكفاءة فحسب. فمن بين ثلاث نساء رشحن لمناصب وزارية مختلفة نالت واحدة منهن حد النصاب لكفاءتها وتجربتها في العمل الحكومي سابقا، فيما كان سبب خسارة الاثنتين الأخريين هو انعدام الكفاءة اللازمة أو ضعفها رغم حيازتهما شروطا «قيمية» فائقة من بينها أن إحداهن شقيقة شهيدين. وأما وزير الطاقة الذي أطيح به فإنه لم يحظ بالفوز ربما لسبب رئيس هو فشله الفاضح في إدارة الشؤون الرياضية التي كان مسؤولا عنها من ذي قبل كمساعد للرئيس، ولم يشفع له قربه المعروف من الرئيس أحمدي نجاد. من جهة أخرى فإن الذين فازوا بثقة البرلمان أيضا لم يفوزوا بميزان واحد فبعضهم لم يكد يحقق الفوز، فيما خاض بعضهم مناقشات عسيرة مع لجان البرلمان التخصصية مثل وزير النفط مثلا، حتى تمكن من استمالة رأي الأكثرية النسبية بصعوبة، فيما استطاع وزير الدفاع أحمد وحيدي أن ينال أكثرية قاطعة لأنه برز للحظة بمنزلة الوجدان الجمعي كما العقل الجمعي للإيرانيين لتاريخه العسكري المشرف منذ بداية الثورة، ولموقف الصهاينة المعلن المعادي له. لكن النقطة الأهم التي لخصها بكثافة رئيس البرلمان الإيراني في مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس نجاد في نهاية الماراثون، والتي لم يرد أي من الحاقدين الغربيين ولا أولئك الناطقين «بالعبرية الفصحى» الإشارة إليها في أي من نشرات أخبارهم الفضائية وغير الفضائية هي العبارة التالية: «نحن الإيرانيين مختلفون نعم، وكنا ولانزال أطيافا واتجاهات مختلفة نعم، وقد حاول بعض المسؤولين الغربيين أخيرا اللعب على هذا الوتر محاولين إحداث فتنة أو الإيقاع فيما بيننا، لكنهم ثبت من جديد أنهم يجهلوننا ويجهلون شعبنا، إذ عندما يجد الجد سيجدوننا دوما كما اليوم في الدفاع عن إسلامنا وعن ثورتنا وعن مصالحنا الوطنية صوتا واحدا ولونا واحدا». هذه هي معادلة الماراثون التشريعي-الحكومي الذي راهن البعض من جهلة التاريخ ومن أميي القراءة والكتابة والفهم، على سقوط المتنافسين جميعا في هاوية رغباتهم السادية التي لا تنتهي. إنها إيران الإسلامية- والحديث موجه إلى العقلاء هنا- يا إخواننا العرب الأعزاء، هذه التجربة الجديدة الفتية والتي لا تضمر سوى المحبة لجيرانها والرغبة الصادقة لإرساء نمط جديد من الديمقراطية، يحاول ويسعى أن يكون على طريق غير الطريق التقليدي الغربي الذي بني على المال والقوة والخداع. ليس ثمة من يدعي في إيران أنه حتى غالب ما يجري فيها منطبق على الإسلام ناهيك عن كله، كما ليس ثمة من يعتقد فيها أن أي اسم في إيران مبرأ من الخطأ ناهيك عن أن يكون معصوما كما يروج المرجفون في المدينة. إن جل ما تدعيه إيران هو أنها تأخذ قراراتها انطلاقا من خصوصياتها الدينية والقومية الخاصة وليس اعتمادا على حسابات خارجية من هنا أو هناك، والأهم من ذلك كله فإن كل ما هو مطلوب منا أن نقبله نحن منها هو أن القدر المتيقن مما يحصل حتى الآن، هو أنها تأخذ قراراتها في طهران العاصمة، وليس في أي عاصمة اخرى مهما علا شأنها، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير وكبير جدا في عالم الذئاب الصهيونية المختطف للقرارات الدولية ولأغلبية قرارات الأمم والشعوب المستضعفة. إن هذا الأمر ينطبق ليس فقط على ماراثون الاقتراع على حكومة نجاد، بل على سائر ملفات إيران المشوهة صورتها في العالم وفي طليعتها الملف النووي، وها هي الأحداث والوقائع المتواترة تثبت مع الأيام أن إيران لن ترضخ لأي مساومة ولا أي ابتزاز من جانب المجتمع الغربي، مهما صعّد من لهجته، وإلى أي أسلوب لجأ، ولو طال الأمر قرنا من الزمان. فهل ثمة من يلومنا بعد ذلك على مساندتنا لهذا الموقف الجسور رغم اختلافنا على تفاصيله ؟! إن عيون التاريخ ستكشف الآن ما كان خفيا في السابق على بعض عميان البصيرة قبل البصر، ومدى هشاشة مراهناتهم على انقسامات مطبخ صناعة القرار في طهران. * الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
هشاشة المراهنة على الانقسام الإيراني
07-09-2009