غريب جدا أن تسود الشوفينية هذا العصر، عصر الحداثة والقيم العالمية وحقوق الإنسان، ومصطلح الشوفينية اشتق من اسم الجندي الفرنسي نيكولاس شوفان، الذي حارب مع جيش نابليون بونابارت، وقد اشتهر بتعصبه المفرط لوطنيته، فبالرغم من كثرة جروحه وإصاباته التي أدت إلى تشوهه، كما يقال، ظل يحارب بحماس واندفاع. لذا تعرف الشوفينية على أنها الغلو والتعصب سواء الوطني أو القومي أو الطائفي أو القبلي أو الجنسي أو أي تعصب آخر لفئة أو مذهب أو حزب أو فكرة. فالشوفيني يغالي في حبه لوطنه أو عرقه أو مذهبه وفي نظرته الاستعلائية التي تزدري الآخر، والأنا المتضخمة التي تعتقد بالأفضلية وامتلاك الحقيقة، لتجلب هذه المغالاة الكراهية والعدوانية تجاه «الأجنبي» أو «الغريب» أو أي «آخر» (xenophobia)، لذا يعتقد الشوفيني بوجوب نشر رسالته «السامية» للعالم بل فرضها في أحيان كثيرة.

Ad

برزت الشوفينية بشكل أوضح في النصف الأول من القرن العشرين مع صعود فاشية موسيليني ونازية هتلر اللذين تعصبا لجنسهما وأصلهما، وكلاهما ادعى أفضليته لحكم العالم، تلك الشوفينية التي تسببت بالحرب العالمية الثانية والدمار الذي ألحقته الحرب بأوروبا، وهي كذلك التي حملت بذور سقوط وانحدار الدولة العثمانية، التي دفعت الأمصار التابعة لها للتمسك بثقافاتها ولغاتها ساعية إلى استقلالها وانفصالها. لتتعلم اليوم أوروبا من ذلك الدرس القاسي ولتفهم أن العنصرية والشوفينية هما الخطر الأكبر على مصيرها ومستقبلها، ولتتحول بعد ذلك من أمم متقوقعة منغلقة على ذاتها إلى أمم حية منفتحة تحترم الثقافات المتنوعة فيها، إذ أصبحت مصدر ثراء وازدهار، ولتتجذر قيم المواطنة، التي تناقض الشوفينية العنجهية، وهي قيم ليبرالية تحترم الفردية والحرية والحقوق الإنسانية والمدنية بعيدا عن الفكر الأحادي العنصري، ويتكرس فيها مفهوم حقوق وواجبات المواطن ومساواته أمام القانون بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس.

أما نحن فمفهوم المواطنة لدينا يعد من أكثر المفاهيم غموضا وتضليلا، حيث تغيّب الشيفونية الضاربة في الجذور الوعي الجمعي لذلك المفهوم، وهو السبب الرئيس لاختلال وانهيار مشاريع بناء الدول العربية التي كرست الشوفينة العروبية والقبلية والطائفية لديها التناحرات والصراعات الطاحنة سواء المحلية أو الإقليمية، لينحصر مفهوم الوطنية بالإفراط في التعصب والعنصرية والتمييز، إذ تعتبر الشوفينية المفرطة دليلاً على الوطنية وحب الوطن، كما يحدث لدينا من شوفينية «جويهلية» وتمييز على أساس تاريخ ومواد الجنسية التي تهدر من حقوق المواطنة وحقوق الأقليات، كما أنها تمارس الطغيان على كثير من فئة «البدون» الذين يستحقون الجنسية.

حتى المجال الرياضي تجلت فيه الشوفينية بأبشع صورها لتتحول إلى حرب كروية كالحرب الدائرة بين مصر والجزائر التي تسيد الخطاب الغوغائي ساحتها، وساهم فيه المثقفون والإعلاميون والأكاديميون لتأجيج التعصب واجترار الانتصارات في المعارك التاريخية التي أنست الناس أنها مجرد كرة قدم، وألهتهم بسفاسف الأمور عن المشاريع الإنسانية الأساسية التي اضمحلت وتقزمت بوجه الشحن والتعبئة الشوفينية.

فلم تجن تلك الشوفينية في منطقتنا غير الشعارات الفارغة والتمجيديات الغابرة والإنشائيات الواهية والعنتريات البالية والمواعظ الخاوية، التي يساهم فيها مدعو الثقافة في المجالات الأكاديمية والرسمية والإعلامية قبل غيرهم. حتى أضحت العصبيات تطغى على بعضها بعضا، فالعصبية القبلية والطائفية تطغى على العصبية الوطنية، والتعصب الوطني بدوره يطغى على التعصب العروبي أو القطري، وهكذا.

وأصبحت المنطقة تعاني هستيريا شوفينية تجسدت بالشوفينيات الرئيسية: وهي الشوفينية العربية والفارسية والإسرائيلية التي تتنافس في غلوها وغرورها وعدوانيتها، حتى تسببت في الكثير من الكوراث الإنسانية كالتهجير القسري والإبادة الجماعية.

وعودة إلى عنوان المقال: ما الشوفينية؟ هي باختصار: لغم مدمر يهدد المنطقة برمتها.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة