لا معنى للحرية في أوطاننا... هي مجرد كلمة نتداولها بشكل استهلاكي ممل دون أن ندرك كنهها أو نبحث في أعماقها. يحلو للمكيافيليين الحديث عن الحرية التي لا يفقهونها حين يكون لهم فيها مصلحة، أو حين تلمس نيران الاستبداد جلودهم، بينما نجدهم يصمتون صمت أهل القبور حين يحرق سعيرها الغير... فأين هم من اختفاء الناشط في «تجمع الكويتيين البدون» خليفة العتيبي منذ الأربعاء الفائت؟! أين هم من تعرض الكثير من النشطاء البدون للإخفاء القسري والاعتقالات والحبس من قبل الجهات الأمنية؟! وما سبب سُباتهم العميق تجاه التراجع الصارخ للحريات؟ ولماذا لم يدافعوا عن الكُتَّاب والصحافيين الذين تمت جرجرتهم إلى نيابة «الخمور والمخدرات» بسبب قضايا الحسبة على الرغم من عدم وجودها في القانون الكويتي وتناقضها مع الدستور؟! والعجيب أن الحركة الدستورية الإسلامية، التي دعت في السابق إلى إقرار قانون الحسبة، تأتي اليوم وتزعم أنها من المدافعين عن حرية الرأي، فأيُّ تناقضٍ هذا؟!

Ad

العلة الأساسية في هذه الفوضى تكمن في غياب مفهوم «الحرية الفردية» الذي خُنقت أنفاسه حتى الموت بسبب «طغيان الأغلبية»، ذلك الطغيان الذي لا يقل قسوة عن طغيان الحاكم، ليحرم المجتمع الوقود المحرك للتطور والتقدم وهو الفردية. فستيوارت ميل، فيلسوف الفردية، يرى أنها شرط أساسي لبناء الشخصية المستقلة القادرة على إحياء الأفكار والمعارف دون وصايا المجتمع، عن طريق النقد والجدل اللذين يتيحان الفرصة لنقض الرأي الخاطئ أو تصحيحه أو تكامله، فالإجماع، حسب ميل، ليس دليلاً على صواب الرأي، والتاريخ يعلمنا أن الخارجين عن السائد والمألوف كان لهم الفضل الكبير في تطور المجتمعات ورقيها. أما حين تكبِّل أغلال «الرأي الجماعي» الشخصية المستقلة فإنه يتم قتْل الإبداع والابتكار ويصيب المجتمع الجمود ويتهدد بقاؤه. والحرية الفردية، حسب ميل، ليست حرية فوضوية بل هي حرية مسؤولة تضع حدّاً لحرية الفرد حين تتجاوز حريته حرية الآخرين، وتضر بحقوقهم، وهنا تأتي مشروعية تدخُّل سلطة القانون في حماية حريات الأفراد وحقوقهم.

لقد شكل مفهوم الحرية الفردية الركيزة الأساسية لمواثيق حقوق الإنسان والدساتير في الدول الديمقراطية التي تطورت وبلغت سن الرشد... فأخمدت النعرات القومية والطائفية، وأصبح الإنسان فيها مواطناً مسؤولاً له حقوق وعليه واجبات. يعرف فيلسوف عصر الأنوار كانط التنوير بأنه «خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد»، أما نحن فلا نزال نعاني ذلك القصور العقلي بسبب انعدام حرية الفرد وعجزه عن التفكير بعيداً عن تبعية ووصايا القبيلة والطائفة، لتبقى العقول قاصرة تلجأ إلى التقليد والانسياق للقطيع الذي يحتاج دائماً إلى الرعاية والتوجيه، ولنبقى بمنزلة الرعايا لا المواطنين الأحرار.

وحيث تغيب الحرية الفردية تغيب القيم... فالحرية تتيح حق الاختيار الحر دون خوف أو طمع أو نفاق، كما أنها تعزز أهم القيم الأخلاقية، وهي التسامح وحرية الضمير واحترام آدمية الإنسان... تلك هي الحرية الأخلاقية التي تختلف عن مبادئ التيارات المكيافيلية التي تؤمن بمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»، فتقف مع حرية الرأي حين تنسجم مع قبيلتها أو طائفتها، وتنكر الحرية الفردية حين تخالف منفعتها الشخصية! متجاهلة حقيقة أنه لا حرية رأي دون حرية فردية ترفع الأيدي عن تكبيل العقول وتعطيلها.

* * *

المكان: مستوصف قرطبة، غرفة 5، اليوم: الأربعاء 19 مايو، الساعة: حوالي 6:30 مساء، الحدث: طبيب يصف مضاداً حيوياً لطفل بدون أن يقوم بفحصه... إطلاقاً!!