جلست أستمع إلى مجموعة من أصحاب المزارع وهم "يتحلطمون" لبعضهم بعضا على أوضاعهم السيئة والمتردية يوماً بعد يوم، وهم مزارعون حقيقيون يوجدون في مزارعهم منذ الصباح الباكر حتى غروب الشمس ليمدونا بأنواع الخضار كافة بسعر رمزي بسيط لا يطولهم منه إلا الفتات، وأنه لولا حبهم للزراعة وإيمانهم بأن ما يقومون به عمل وطني قبل كل شيء، لما استمروا في عملهم الذي تقف في طريق نجاحه الكثير من العوائق والعقبات التي تتسبب بها مزاجية بعض الجهات الحكومية وغير الحكومية وكسلها وتنفعها.

Ad

ولا أدعي أنني فهمت الكثير من جوانب قضيتهم، غير أنني وعدتهم بأن أنقل كلامهم على الورق لعل أحدهم يقرؤه مصادفة، فتحركه الغيرة والشعور بالمسؤولية ليحل لهم بعض مشكلاتهم العالقة التي تحول دون قيامهم بدورهم على الوجه الذي يريدونه بتحويل صحرائنا إلى أرض زراعية على مد النظر، توفر للوطن والمواطن أمناً غذائياً يتمثل في ثروة زراعية وحيوانية بسعر معقول يستفيد منه المزارع والمواطن في الوقت ذاته، بدلاً من أن يذهب كله إلى جيوب عدد محدود من تجار الجملة الذين يأكلون الأخضر واليابس في دقائق معدودة دون جهد يذكر، بعد أن يكون المزارع قد أفني الشهور تلو الشهور، وهو يحفر ويبذر ويسقي بانتظار الحصاد، فلا يجني بعد ذلك سوى القهر، وهو يرى ثمار تعبه ذهبت إلى من لا يستحقها، فأي ظلم أكبر من هذا؟!

يقول أحدهم: أتتصور أننا في كثير من الأحيان نشتري الكرتون فارغاً بثلاثين فلساً لنملأه بالخضار وننقله إلى السوق لنبيعه هناك بعشرين فلساً؟ والسبب هو تحكم الوسطاء وجلهم من الأجانب بالسعر الذي يريدونه لأن الجمعيات تشتري منهم لا من عندنا مباشرة، ولذلك يستفيد الوسيط حين يشتري منا تعبنا بتراب الفلوس، ليبيعه بأضعاف ما اشتراه منا 500% في لحظات، والأسوأ أننا في كثير من الأحيان لا نبيعه حتى بالخسارة في موسم الوفرة والسبب الاستيراد من دول عربية رغم الوفرة المحلية للمنتج، ورغم أن ما ننتجه يسقى بماء نظيف بخلاف بعض ما يستورد من هذه الدول، حيث تسقى الخضار والفاكهة بمياه معالجة ثنائية وترش ببعض المواد المسرطنة الضارة! وحين سألتهم لماذا هم ملزمون بالبيع بهكذا أسعار؟ كان الجواب أن من لا يبيع يحرم من الدعم ومن التوسعة وتكون خسارته كارثية، لذلك فإن الربح الزهيد أفضل من الخسارة، لكن المشكلة الكبرى التي نواجهها حقاً هي في عدم تسلمنا الدعم الحكومي كاملاً وفي حينه، فهو أحيانا لا يتجاوز الستين في المئة، والحجة دائماً عدم توافر الميزانية لدى هيئة الزراعة، وبذلك يضيع جهد المزارع الذي لم يدخر جهداً، وهو يتحمل المصاريف الكبيرة من بذور وسماد وأجرة العمال وأدوات زراعية لينتج ويحصل على الدعم، فتكون النتيجة أن أحداً لا يهتم بما يحدث له وما يتكبده من خسائر، رغم أن ما يقوم به من إنتاج زراعي أهم ألف مرة من الزراعة التجميلية التي توليها الدولة عناية أكبر وتخصص لها ميزانية أضخم، فالزراعة التجميلية مخصص لها 11 مليون دينار فيما يخصص مبلغ 6 ملايين دينار لدعم الزراعة الإنتاجية، وهو مبلغ لم يتغير منذ سبع سنوات رغم أن عدد المزارع تضاعف من 500 مزرعة إلى أكثر من 2000 مزرعة!

قالوا أيضا إن الصقيع الذي حدث قبل عام أو عامين قد دمر مزارعهم بالكامل، وقد وعدتهم الحكومة بالتعويض غير أنهم لم يتسلموا شيئاً بعد، وأنهم طرقوا الأبواب كافة من أجل تحسين أوضاعهم وحل مشاكلهم، وقد التقى وزير المالية وفداً منهم وكذلك رئيس مجلس الأمة، كما رفعوا شكواهم للعديد من النواب غير أن شيئاً لم يتغير، ولا أمل في أن يتغير مادامت النظرة الحكومية قاصرة ولا تدرك أهمية الأمن الغذائي الذي من الممكن أن يوفره هؤلاء المزارعون للوطن في مستقبل الأيام إن تم الاهتمام بهم ودعمهم على الشكل الأمثل!

سألت مرة مواطناً من دولة فقيرة جدا: هل يموت أحد من الجوع هنا؟ قال: لا... سألته عن السبب: قال: الزراعة... فالخضار والفاكهة هنا رخيصة جداً، وهي السبب في أن أحداً لا يموت من الجوع رغم الفقر المدقع!

بعد سماعي شكاوى المزارعين، أخشى أن يأتي يوم بعد عشرين أو ثلاثين سنة، وبعد أن ينضب النفط الذي تحول إلى أفيون خدر أدمغتنا، فلم نعد نفكر سوى في اللحظة التي نعيشها، نتحسر فيه على عدم اهتمامنا بالزراعة وأهلها، وتصبح حالنا أسوأ من حال ذلك المواطن الفقير الذي على الأقل يجد ما يأكله ليعيش!