جئتُ الورقةَ راغباً في الكتابة عن الانتخابات، وجئتها أيضاً راغباً في عرض إصدار موسيقي جديد لأعمال البولندي شوبان (1810-1849) الكاملة. وثالثٍ للسيمفونيات التسع للنمساوي بروخنر(1824-1896)، فما اصطدمت الِرغائبُ ببعض. بالرغم من أن الانتخابات أوركسترا ضخمة في عدد العازفين، وبالغة الصخب، وشوبان يكتفي بآلة البيانو وحدها، راقصاً أو مغنياً برقة بالغة.

Ad

شوبان له عمل كونشيرتو للأوركسترا والبيانو، لكنه لم يُعرف بهما قدرَ ما عُرف بأعمال البيانو المنفرد: أعمال «بالاد»، «أتيود»، «مازوركا»، «ليليات»، «بولونَيْز»، «بريليود»، «سوناتا»، وأُخريات. وعبر البيانو وحده اكتشف كلَّ شيء. وعادةً ما كان يُشاع بين النقادِ أن تأليفَه على البيانو يقرب من الفانتازيا الحرّة، دون معمارٍ داخلي. ثم بدأ الرأيُ ينقلب إلى نقيضه. فهناك معمارٌ معقّد خفيّ وراء هذه اللمسات اللحنية الرقيقة حدّ أن تكون أُنثوية. وبروخنر في الجانب المقابل خُصّ بالعمل السيمفوني الضخم وحدَه دون أية آلةٍ منفردةٍ مثل البيانو. وسيمفونيتُه كاتدرائية لا تهتدي لمداخلها بيسر.

حملاتُ الدعاية الانتخابية العراقية، عبر شاشة التلفزيون، تبدو هي الأخرى فانتازيا فوضى دون ميزان داخلي. أو هكذا تُملي علينا تعليقات الإعلام العالمي، العربي، والعراقي. متدينون من شيعة وسنة، علمانيون، ليبراليون، وطنيون، عروبيون، كرديون، فيليون، تركمانيون، آشوريون، مسيحيون، إيزيديون، مندائيون... ولامنتمون أيضاً. مئات المرشحين بعشرات القوائم. تاريخُنا الطويل لم يسمحْ لنا بالتنفس خارج بهو الحاكم الواحد، والحزب الواحد. حتى أنك لا تعدم من يقول شاكياً: كنا تحت مطرقة حزب واحد أحد، واليوم تحت مطارق أحزاب عديدة. رأسُ أحدنا لا يحتملُ زوايا نظرٍ مصوّتةٍ بشأن بناء الوطن، بكل هذا العدد. نريدُ زاويةَ نظرٍ واحدة، تختمُ على وجودنا بالشمع الأحمر، فنستريح. هذا الرأس يفضّل بيانو منفرد على أوركسترا بعشرات الآلات. تفضيلٌ يجهلُ أن فانتازيا شوبان الناعمة الجميلة هي الأخرى تعتمد معماراً داخلياً معقداً. وأن أوركسترا بروخنر الضخمة تُخفي تضرّعاً دينياً بالغ الرقة والعذوبة والانسجام.

الديمقراطية تُشبه العمل الأوركسترالي، لا تستقيم دون عشرات العازفين. والذي لمْ يألف الديمقراطية قد لا يستسيغ العمل الموسيقي الكلاسيكي، أو لا يملك أن يخترقَ السطحَ المتعددَ الأصواتِ، من أجل الإصغاء إلى الهارموني البعيد العميق. وكذلك الذي لم يألف الموسيقى الجدية، قد لا يجد في الانتخابات الديمقراطية غيرَ صخبٍ متنافر، يوجع الرأس. أنت تحتاجُ إلى أناةٍ وعمق لتسبر غورَ الهارموني المتوافر في موسيقى بروخنر. ولتكتشف، عبرَ متاهةِ أصواتِ الآلات التي تبلغُ المئة، اللحنَ، أو الهارموني بالغَ التشذيب. بل لتبلغ ذلك الذي سميتُه تضرعاً دينياً. لأن بروخنر كان ذا طبع فلاحي عاري الإيمان من أي تكلف، وأقرب إلى الفطرة. أبله بلاهة القديسين حتى كادتْ بساطتُه تحيلَه إلى خادمٍ طيّعٍ لفاغنر المتسلّط.

والرغبةُ بسكينةِ الحزبِ الواحد، والقائدِ الواحد، المنبسطةِ على حياةِ العباد، مثل سطحِ الفورمايكا، تشبه الاستكانةَ إلى وهم أن موسيقى شوبان، المنفردةَ على آلة البيانو، مكتفيةٌ بانبساطةِ اللحنِ الخيطي، الغنائي، الذي لا يُخفي بناءً على درجة عالية من التعقيد.

كنتُ أنتقل بين شوبان وبروخنر. أفتشُ في موسيقى الأول عن شبكةِ البناء المعقدة، عبر السطح الغنائي، من أجل أن أقبضَ فيها على الجوهر الموسيقي. وفي موسيقى الثاني أفتش، عبرَ المعمار الكاتدرائي الشائك، عن منافذَ للانسجام اللحني، التضرعي، الصافي، الخفي وراءه.

ولمْ أجدْ نفسي في منفى عن هذين، وأنا أتابعُ مشاهدَ وخطاباتِ الحملة الانتخابية لهذا الفسيفساء العراقي العجيب. كثيرون يعيبون على هذه الديمقراطية صخبَها، وتنافرَ أصواتِها، وتباعدَ أهدافها ومقاصدها، وهم لا يكتشفون أن مصدرَ ضيقهم كامنٌ في أنهم يعيبون على الديمقراطية ديمقراطيتَها. لأن طبيعتهم تطامنت، حتى لم يعد جمرُ المتسلط الفرد لاذعاً. وحتى بدت لهم هذه الديمقراطية مستوردة. وكأنها لدى عبادِ الله طبيعةٌ، لا تطبّع.

ما أكثر ما فسدت اللغة تحت تطاحن الشعارات السياسية، وما أكثر ما حلّقتْ في بالونات الوعود الإيهامية، تحليقَ لغةِ نقادِ الشعر في عربية اليوم. ولكن كلّ هذه الأعراض، من إفساد وإيهام، والتي تبدو مرَضيةً لمن لا خبرة له، هي أعراضُ زحمةِ السوق الحر. أعراضُ الكيانات التي تريد أن تُقنع، باللسان وحده، بأنها الأفضل. أعراضُ الحياةِ الجديدة، المقبلةِ أبداً.