كان الشاعر الداغستاني الراحل «رسول حمزاتوف» قد افتتح كتابه الرائع «بلدي» بحديث عن مقدّمات الكتب، رمى من ورائه إلى إبداء المسوّغات التي تمنعه من وضع مقدمة لكتابه المذكور، وهو لكي يؤكد عدم ضرورة أو جدوى أي مقدمة أو ما يماثلها، أسرف في تصوير المقدمات بطريقة مفعمة بالطرافة الباعثة على التأمل، والسخرية الداعية إلى الابتسام.

Ad

وفي مجرى حديثه هذا نجد أنفسنا مقتنعين تماماً بما ساقه من حجج، لكننا نظل، برغم ذلك، نلهث وراء مرافعته، طالبين المزيد، ثم لا نلبث أن نكتشف أن حديثه عن عدم جدوى المقدّمات قد استغرق ثلث صفحات الكتاب، فأصبح أطول مقدمة أمكن لكتاب إبداعي أن يضمها، بل هو قد أصبح بذاته كتابا مستقلا يمكن أن يكون عنوانه «المقدمات وما يشبه المقدمات»!

ومما رواه في هذا الشأن، أنه حين ذهب إلى الدراسة في موسكو، أعطاه أبوه الشاعر «حمزة تسادا» مبلغا من المال ليشتري به معطفا يقيه غائلة الشتاء القارس هناك، لكنه، لأسباب غير محددة، صرف ذلك المبلغ، ولم يشتر المعطف، وعندما عاد في الإجازة خاليا منه، سأله أبوه عما منعه من شراء المعطف، فوقف أمامه متلجلجا يشرّق ويغرّب في اختلاق الأعذار، حتى أوقفه أبوه وأفهمه بحزم أن الأمر لا يحتاج إلى إجهاد نفسه بكل هذا الكلام، وأنه يمكن، ببساطة أن يصل إلى جوهر الموضوع بكلمتين لا أكثر:

• هل أنفقت المبلغ؟

• نعم.

• هل اشتريت المعطف؟

• لا.

عندئذ انصرف أبوه عنه، دون أن يعاقبه، لكنه علمه، في الوقت ذاته، درسا في التوجه إلى موضوعه مباشرة، دون تضييع الجهد والوقت في هراء لا طائل من ورائه.

يقول حمزاتوف إن أول ما يظهر على منحنى الدرب، عند عودة الراعي: سحابة من الغبار، ثم قبعة الراعي، ثم الراعي كله، ثم قرون القطيع، وبعد ذلك فقط يظهر القطيع كله.

ويرى أن تلك الأشياء، التي تظهر متعاقبة في البداية، تشبه مقدمات الكتب، وهي لا تهمنا لأن ما نريده حقا هو رؤية القطيع، والقطيع هنا، كما يبدو واضحا، هو معادل الموضوع بالنسبة له.

وينتقل حمزاتوف إلى مثال آخر، فيؤكد أن أكثر ما يزعجه عند ذهابه إلى المسرح، هو أن يأتي مقعده خلف رجل طويل، والأكثر من ذلك أن هذا الرجل يرتدي قبعة عالية لا يحب خلعها، والأكثر من كل ذلك أنه لا يستقر على حالة واحدة، بل يتأود طول الوقت يمينا وشمالا، بحيث لا يمكن لمن يجلس وراءه، أن يشهد العرض إلا وهو يتأرجح محاولا استراق النظر من خلال الفراغات التي تتركها حركة الرجل ذي القبعة.

يقول حمزاتوف إن ذلك الرجل بالنسبة لمرتاد المسرح، يشبه المقدمة بالنسبة لقارئ الكتاب.

ويقدم صورة أخرى لهذا الأمر بقوله إن مباريات الملاكمة تفقد متعتها بسبب «الحكم» الذي يمضي الوقت متقافزا بين اللاعبين في الحلبة الضيقة، بحيث يستولي على معظم وقت العرض، حاجبا اللاعبين بحركته في أكثر الأحيان، وظاهرا في الصورة أكثر منهما.

إن رفض حمزاتوف لمقدمات الأعمال الإبداعية الأدبية يذكر بما رآه الكاتب العظيم «يحيى حقي» من أن القصة الناجحة يجب أن تتضمن مقدمة طويلة... محذوفة هي تلك التي يقدمها الكاتب في نسيج النص دون أن يشعر القارئ بوجودها، وقد مثل لذلك في واحدة من قصصه، ممعنا في معاقبة المقدمات حتى أثناء دخولها في صلب العمل الفني نفسه.

وأحسب أن حمزاتوف كان سيحمد لحقي كثيرا هذه الوقفة المتضامنة، لو أنه اطلع على مقالته وعمله التطبيقي في هذا المجال، لكنني أكاد أقطع بأنه كان سيشعر ببالغ السرور، لو أن خبرا أتاه بموقف الشاعر العراقي «أحمد الصافي النجفي» من المقدمات، ولأضاف ذلك الموقف إلى جبل مقدمته القائم ضد المقدمة.

فعندما نشر الصافي النجفي ديوانه «التيار» عام 1946، قدم له بهذين البيتين:

يقدّمُ «تياري» إلى الناس نفسه وليس له إلا الهدير مُعرِّف

وليس بمحتاج مقدمةٌ له مقدمة «التيار» ما سوف يجرف!

وفي هذا السياق أذكر أن صديقا شاعرا أرسل إلي، قبل أعوام عدة، طالبا مني أن أكتب مقدمة لديوانه الجديد، فوعدته خيرا، ثم أرسلت إليه بعد يومين نسخة من كتاب «بلدي» لحمزاتوف.

وجاءني رده سريعا: شكرا لك ولحمزاتوف.. سأطلق قطيعي دفعة واحدة.

* شاعر عراقي