منصورة عزالدين: بهاء السرد وعنفه
ينتهي عام بآلامه وآماله، بما تحقق فيه وما تعثر عن التحقق لعجز ما أو نسيان مفاجئ، ويبدأ عام آخر لن يختلف كثيراً عن سابقه رغم أمنياتنا بأن نحقق فيه إنجازاً أكثر وفشلاً أقل. ينتهي عام تتساقط منه وجوه وأقنعة لوجوه، تتغير ملامحنا وتتقلب قلوبنا، نحسب خسائرنا وأرباحنا، ما أضفنا إلى معارفنا وما اكتسبنا من خبرات لا نجزم فعلاً إن كنا قادرين على تحديدها. عام نضيف فيه الى مفكراتنا أصدقاء ونشطب منها آخرين نتيجة فقد أو لسبب غير مُعلَن. ما يبقى في رصيدنا، نحن الذين امتهنا الكتابة والقراءة، هو عدد ما أنجزنا من قراءات، وما يفلت من حساب فوائدنا هو كتب كنا ننوي قراءاتها لكننا لم نستطِع، فتركناها مُعلَّقة في ذمة المقبل من أيام إذا أسعفنا الوقت.أنظر دائما في نهاية العام المنصرم الى الرف الذي أمامي وأرى الكتب التي أكدسها بحماس كمشاريع قرائية، وما يحزنني أبداً أن الكتب تزيد وأن عاماً وحيداً لا يكفي لقراءتها. ألوم نفسي أنني أضعت وقتا في قراءة رواية أو ديوان أو دراسة لم تُضِف إلي شيئاً جديداً، وأفرح أنني قرأت عملاً بهياً جميلاً جديراً بالقراءة، وليس هناك أبهى من رواية كرواية منصورة عزالدين "وراء الفردوس"، لتكون الكتاب قبل الأخير الذي أنهي به هذا العام الجميل. قدرة فاتنة على السرد وتمكُّن من تقنية الرواية الحديثة لم تهتز طوال المساحة المتاحة للحكي إلا قليلاً وقليلاً جداً. رواية يتغلب فيها بهاء السرد للراوية والروائية على عنفه، وكان يمكن بكل بساطة أن يختفي هذا العنف لو استطاعت الروائية أن تترك كل مسالك هذا السرد بيد راويتها. الراوية التي أنصفت "سلمى" البطلة المطلقة أو المركزية (protagonist) في مقابل لا أحد سوى سلمى ذاتها التي قامت بذات الوقت بدور الشخصية المضادة أو (antagonist)، ولم تكن "جميلة" أو هيام أو مارجو أو العمات والخالات ولا حتى الرجال الباهتة ألوانهم وأشباحهم، سوى حيل روائية استخدمتها الراوية لإيهام بطلتها كنظير أو معادل للشخصية المركزية. حتى الفلاح الذي سرقت من حقله البصل الأخضر لم يكُن رجلاً حقيقياً أو بمعنى أدق وجوداً روائياً، ولم تجزم سلمى أو الراوية أنه اغتصبها أو تمنت أن يغتصب طفولتها ليحقق لها سبباً حقيقياً لاضطرابها النفسي، ذلك الاضطراب الذي بقي معلقاً حتى النهاية في أوراق المعالجة النفسية والذي لم يتم البوح عنه أو كشفه، رغم الربط الأخّاذ بين "بدر الهبلة" والحالة السيكولوجية الغامضة لسلمى، بين الجنون الحقيقي والجنون المشتبه به في الصفحات الختامية لسيرة البطلة.
منصورة عزالدين تقدم عملاً كاشفاً حاداً وقوياً، قد يعالج الحال المتردي للكثير من الروايات التي قرأناها هذا العام. ما نغَّص عليَّ شخصياً متعة العمل، محاولة فرض العامية لتكون من دعائم السرد لا من ضرورات الحوار، رغم أن موقفي هو ضد العامية في الحالتين، ولم يتم ذلك عن غير قصد، بملاحظة قدرة الروائية وتمكنها من لغتها الفصحى. فكلمات مثل شكائر وطلمبة الماء وغيرها كان يمكن ببساطة إعادتها الى اللغة الأم من دون جهد يُذكر.أُضيف الى ذلك محاولة تفسير التناص الذي قد يستعصي على القارئ العادي كاستخدام مفردة كونديرا "الكيتش"، أو اعادتها الى اللغة بمعناها "ابتذال"، خصوصا أنه تناص استُخدم عارياً بعيداً عن أجواء السرد.الرواية تستحق أن تُقرَأ وتنال حقها النقدي، ومنصورة عزالدين تستحق الثناء والاحترام.