بعد أن أصبح من أحاديث الماضي، عاد الجدل الرأسمالي- الاشتراكي من جديد نتيجة لما يثار حول قضية الخصخصة المتسيدة للساحة السياسية والإعلامية، فمعارضو القانون يبررون موقفهم بحجة سقوط الرأسمالية التي أطلقت يد القطاع الخاص وتسببت في الأزمة المالية الأخيرة. نعم سقطت الرأسمالية بشكلها المتوحش كما سقطت معها الاشتراكية الاستبدادية، ولكن لم تسقط مبادئ الرأسمالية الاجتماعية، فها هو العالم اليوم يتبنى تلك الفلسفة التي طرحت نفسها بقوة في أوروبا في الفترة التي أعقبت الكساد الاقتصادي في 1929 حين سيطرت فلسفة آدم سميث لحرية الاقتصاد المطلقة دون تقييد أو تدخل من الدولة، لتهيمن بعد ذلك فلسفة جون كينز الذي كتب في 1926 عن نهاية مفهوم «دعه يعمل»، وهو شعار الرأسمالية غير المقيدة، إذ حذر من شرور انعدامها للعدالة الاجتماعية كالبطالة والفقر واتساع الفجوات بين مستويات الدخل، فأسس فلسفة جديدة تعتمد على تدخل الدولة لمعالجة الاختلالات، وهي الطريق الوسط الذي يجنب تطرف نظريتي الرأسمالية الصرفة والاشتراكية الديكتاتورية، فعزز هذا «الطريق الثالث» الطبقة الوسطى، وهي الطبقة الكفيلة بتحريك المجتمعات إلى الأمام، لتوازن بذلك الفلسفة الكينزية بين التنمية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية في تحفيزها لتنافسية القطاع الخاص ودعمها في نفس الوقت لسياسات التأمين الاجتماعي من تعليم وصحة وسكن ورعاية للطفولة وكبار السن وغيرها.

Ad

تلك هي الفلسفة الليبرالية الجديدة New liberalism التي تسمى أيضا الليبرالية الاجتماعية أو الرأسمالية الاجتماعية، وهي تقف على النقيض من النيوليبرالية Neo-liberalism (الرأسمالية الكلاسيكية) التي عادت من جديد في الثمانينيات بشكلها الشرس في اعتمادها على تصحيح نفسها بنفسها، فتسببت بالأزمة الاقتصادية الآسيوية في 1997 وفي الأزمة العالمية في 2008 نتيجة للمضاربات المالية البعيدة عن رقابة الدولة، ليعاد الاعتبار بعدها لأهمية الفلسفة الكينزية في تدخل الدولة ضد الاستغلال والاستعباد.

في الواقع، يذهب هذا الجدل الدائر بعيداً عن سبب العلة الرئيسية، التي لم يجد معارضو الخصخصة لها علاجاً، وهو مرض الدولة الريعية الذي ينخر بالأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويشكل سبباً رئيساً في تعطل التنمية وعرقلة الديمقراطية، فبينما تعتمد دول العالم المتقدم على القطاعات الإنتاجية الحقيقية والضرائب التي تمول رعايتها الاجتماعية وتعزز المشاركةَ السياسية لمواطنيها، ترعى الدولة الريعية كل قطاعاتها التي تتسم بضعف الإنتاج ومحدودية فاعليته بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني، وهو أمر لا يعكس كفاءة الاقتصاد أو مستوى التنمية البشرية المستدامة بالرغم من مظاهر الرفاهية، إذ يصبح الاستهلاك وهدر الأموال والموارد والطاقة وانحدار أخلاقيات العمل والفساد الإداري وتردي الخدمات والتوظيف السياسي وكسب الولاءات وزيادات الرواتب والكوادر (غير المرتبطة بالإنتاجية) وثقافة الهبات والعطايا والمكرمات، تصبح كلها من سمات الذهنية الريعية التي تأخذ دون أن تنتج، الأمر الذي يخل بشكل جلي بمبادئ المواطنة المبنية على الحقوق والواجبات والذي يشوه بدوره القيم الديمقراطية، كما يهدد النظام الريعي الهيكلية المالية الهشة في حال انعدام استقرار أسعار النفط لاسيما بتحول الاهتمام العالمي تدريجياً للاستغناء عن الوقود بسبب مشاكل الاحتباس الحراري.

إن تفعيل آليات الشفافية في عملية الخصخصة التي تقوم على أساس الرأسمالية الاجتماعية، سيؤدي إلى ما دعا إليه كينز «القتل الرحيم للنظام الريعيّ» الذي سيحمي البلد من آثاره المدمرة.