قضية عائلية


نشر في 20-11-2009
آخر تحديث 20-11-2009 | 00:01
 أحمد مطر قال لي صاحبي: {ما دامت مصيبة الاحتلال القبيح وأذنابه الأقبح وقعت، فليس أمامنا إلا أن نأمل بظهور جانبها المشرق، ولو بعد حين}.

ابتسمت مكرهاً: {ومتى كان للمصيبة جانب مشرق؟}.

قال صديقي بجدية صارمة: {يكون لها أحياناً مثل هذا الجانب. وكي تصدقني أقسم لك أنني رأيته مرة في طفولتي، وإني لأشهد أنه رائع وممتع. دعني أحدثك عنه: في تلك الأيام البعيدة سررنا جداً عندما خلا بيت في شارعنا من ساكنيه الغلاظ المقيتين، واستبشرنا خيراً عندما استأجرته أسرة من الغرباء، لكن تلك الأسرة جعلتنا ندرك منذ اليوم الأول لوصولها، أن جميع ما مر بنا من محن لم يكن إلا صوراً من المداعبات، بإزاء ما مثلته من مصيبة ماحقة. كانت الشر مجسداً بأبشع ألوانه في ثلاثة أقانيم: المرأة المطلقة أربع مرات، غنمت من إحدى زيجاتها السابقة ولداً يشبهها تماماً. وكي تعرف وجه هذا الشبه ينبغي أن أعلمك بأنها احتاجت إلى يومين فقط، كي تستكمل مشاجرة جميع نساء الشارع.

أما الولد، الذي أُطلق عليه زوراً وبهتاناً، اسم (جواد)، فقد كان بغلاً حقيقياً لم يسلم من أذاه أحد. ولفرط ما أذاقنا من مر الهوان، كنا جميعاً وبلا اتفاق ننطق اسمه دائماً بجيم مصرية.

لأكثر من عامين، كنا لا نخرج إلى الشارع إلا إذا استطعنا أن نتدبر بعض النقود أو الحلويات، ونعبئ بها جيوبنا، كي يكون في حوزتنا ما يمكن أن يسلبه ذلك الولد، وإلا فالبديل الوحيد هو أن يضربنا بمنتهى القسوة.

وفي المرة اليتيمة التي شكوناه فيها إلى أمه، بصقت في وجوهنا، ثم دفعته نحونا قائلة: {أدّب أولاد النعال}. كانت {أم معارك} مبكرة!

أما زوج أمه، الذي كان {مثله الأدنى}، فكان سائق شاحنة بالمهنة، وسائق مشاحنات بالفطرة. وكان بحكم عمله يغيب لفترات طويلة، لكن حضوره الوجيز كان يكفي لبث الرعب في خلايا الجدران!

وأدركنا، من تهامس آبائنا، أنهم يتحاشونه لأن له شقيقاً يعمل في الشرطة السرية. لذلك لم نعول عليهم في أمر حمايتنا، وأسلمنا جلودنا وأرواحنا وجيوبنا، بصبر المؤمنين، لحكم هذا القضاء النازل بنا.

لكن... حدث بعد أشهر مديدة من العذاب، أن صار زوج الأم، لسبب لا نعلمه، يمكث في البيت طويلاً.

بدأنا، آنذاك، نسمع ليل نهار، وبلذة حقيقية، أصوات العراك والضرب وتكسير الأواني وقطع الأثاث، تنطلق من ذلك البيت عذبة ومنوعة على جميع {المقامات}.

كلا... ليس هذا هو الجانب المشرق. إنه مجرد الخيط الأول من الفجر. أما الإشراق الحقيقي فقد بدا يوم رأينا سائق الشاحنة يخبز بغلنا العتيد أمام أنظارنا، بقسوة لم نر لها مثيلاً. ساقه ركلاً نحو الشارع وأشبعه لكماً حتى ورّمه وأدماه... ولأكثر من ساعة، كانت كل ثانية منها ثأراً عظيماً لنا، ظل يلكمه ويصرخ: ابن العاهرة تسرقني أنا!؟

لا تحدثني يا أخي عن مذاق العسل. إنه مر عند مقارنته بذلك المذاق اللذيذ الذي سال في أرواحنا وأفعمها، عندما هرعت الأم لتخليص ولدها، فانهال سائق الشاحنة عليها بضرب مبرح هنّأ قلب كل والدة ومولود، حتى أن الواحد منا كان يود أن يندلق على يد ذلك الوغد، ويغسلها بالتقبيل.

في أثناء ذلك لم يحاول أحد منا أو من أهلنا التدخل. لماذا نتدخل؟ إنها قضية عائلية خاصة، وفوق ذلك ساقها ربنا كنوع من الرحمة، ولم يكن لائقاً بمؤمن أن يصد رحمة ربه أو يوقف جريانها.

المهم أن السائق، كمن يضع اللمسات الأخيرة على سيمفونيته الرائعة، ركل امرأته الى داخل البيت، وأغلق الباب بعنف، ثم سدد ركلة ختامية الى الولد، مصحوبة بصرخة لاهثة وملوثة بالزبد: سأقتلك إذا رأيت وجهك مرة ثانية.

لم نر وجه الولد مرة ثانية، ولم يشغلنا مصيره أبداً. ثم ما مضت إلا بضعة أسابيع، حتى اختفت أم البغل فجأة. ولم نعرف أبداً إذا كان السائق طلقها أم قتلها أم أنها فرت منه.

في الفترة التي بقي فيها السائق وحيداً، كان يسكر طول الليل، ويطلق بذاءات لم يجر مثلها في بال الشيطان. فإذا استيقظ عند الضحى، راح يذرع الشارع جيئة وذهاباً، باسطاً على الهواء ظلاً ثقيلاً ومخيفاً.

واذا كانت أمهاتنا في أمن البيوت بغياب تلك السعلاة، وإذا كان آباؤنا في أمن وظائفهم بعيداً عن ذلك الغول، فان حيويتنا نحن الأولاد استجمعت كل ما في الشارع من حجارة، وباتت أيدينا تصوب من فوق السطوح رشقات دقيقة وموفقة نحو السائق نصف المخمور، فكان لا يدري من أين تأتيه الضربات، ولا يعلم من يضربه.

ولم يطل الوقت حتى أصبحنا ذات يوم فرأينا السائق يحمل أغراض البيت على عربة، ويرحل من شارعنا نهائياً}.

سرتني حكاية صاحبي، ووجدتني أقول بانشراح: {كنتم محظوظين برحيله، وإلا لظل شارعكم مسكوناً بالرعب}.

ضغط على يدي بمودة: {ومتى كان الشارع آمنا بوجود ذلك الولد وأمه!؟}.

back to top