آن الأوان للحوار الحضاري أن يفرق في قضية الديمقراطية بين «القيم» و»الإجراءات» المرتبطة بها، من دون أن ينكر أحد على الإطلاق أن الديمقراطية هي أفضل صيغة للحكم توصل إليها البشر حتى هذه اللحظة.

Ad

تم التوظيف السياسي لفكرة «حوار الحضارات» من قبل الدول الكبرى على نطاق واسع، فالسياسة تشكل جوهر الصراع الحضاري المزعوم، بل إن إمعان النظر في طبيعة الصراع الدولي الراهن، أو السابق، وربما اللاحق، يجعل المرء يكتشف، للوهلة الأولى، أن الحضارات لا تتصادم، وإنما تتصادم القوى السياسية والاقتصادية النافذة في حضارة من الحضارات مع قريناتها في حضارات وثقافات أخرى. والصراعات السياسية في حد ذاتها باتت من السمات والصفات والطبائع المستمرة لدى الكيانات البشرية، عائلات أو قبائل أو دول أو إمبراطوريات، لكنها المحاولات الزائفة التي تلبس هذا النوع من الصراعات لبوساً حضارياً، وتحاول أن تمده على اتساعه، وتمنحه عمقاً، عبر ربطه بالحضارات، هي التي تشكل خطراً على الحوار الحضاري، وتجعل منه مجرد «تكتيك» في استراتيجية كبرى، أو تفصيل جزئي في تصور سياسي شامل ينطوي على رغبة عارمة في الهيمنة والاستحواذ من قبل الدول الكبرى على نظيرتها الصغرى.

ومن الأمور السياسية الخلافية التي نشأت بين الدول الغربية والعالمين العربي والإسلامي في العقود الأخيرة هي محاولة فرض الديمقراطية عنوة، الأمر الذي تمت ترجمته في أعلى مراتبه عبر الغزو الأميركي للعراق في مارس من عام 2003، الذي أطلقت عليه واشنطن «عملية الحرية للعراق».

ومثل هذا التصور يتناسى أن «الديمقراطية التي نتجت في الغرب من خلال مسيرة حيّة على أرض الواقع، دفع البشر ثمنها حروباً وصراعات، لا يمكن أن تفرض بشكل فوقي، في أماكن أخرى، بشكل ميكانيكي، وبمنطق الاستزراع، أو من خلال الحوار، الذي يصبح وسيلة للهيمنة والدفع القسري، لا أداة للتفاعل الحضاري الحقيقي الحر».

فالديمقراطية فعل ذاتي يمكن أن يتأثر بالآخر لكن لا يكون صورة من صور الخضوع له، أو إحدى الرسائل الناعمة للإمبراطوريات تستخدمها في توسعها، وهي مسألة تكررت ملياً في تاريخ الإنسانية، فها هو الباحث الألماني هيرفريد مونكلر يقول عقب دراسة سلوك الإمبراطوريات التي عرفها البشر: «كل الإمبراطوريات ذات العمر المديد اختارت هدفاً لوجودها، وتسويغاً لشرعية هذا الوجود، مهمة ذات بعد تاريخي عالمي، أعني أنها قد زعمت أن لها رسالة ذات أهمية كونية، أو رسالة تنقذ العالم المنضوي تحت لواء الإمبراطورية من الشرور التي عاناها البشر عبر التاريخ... وفي وسع المرء، طبعاً، أن يرى في الرسالة الإمبراطورية المدعية إنقاذ البشر من الشرور، وفي زعم الإمبراطورية العالمية أن لديها تفويضاً إلهياً، نعم! في وسع المرء أن يرى في هذا وذاك مجرد مصطلحات إيديولوجية، وأن يحاول، من ثم إزاحة القناع عن النواة الحقيقية للمشروع الاستعماري، للاستدلال على ما فيه من مصالح مادية دنيئة، يراد التستر عليها عادة».

ومسار فرض الديمقراطية على بعض الدول النامية يتجاهل المطلب الرسمي لدول الجنوب الذي طال أمده، برفضها التدخل في شؤونها الداخلية تارة، ومنح شعوبها الفرصة كاملة للتجريب السياسي، ومناداتها بضرورة أن تتحقق الديمقراطية في مجال العلاقات الدولية، سواء في تفاعلات الدول، أو في المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية.

وقد آن الأوان للحوار الحضاري أن يفرق في قضية الديمقراطية بين «القيم» و»الإجراءات» المرتبطة بها، من دون أن ينكر أحد على الإطلاق أن الديمقراطية هي أفضل صيغة للحكم توصل إليها البشر حتى هذه اللحظة. ولا خلاف على أن الإجراءات التي تنصرف إلى ما يضمن المنافسة والنزاهة يمكن تسويقها وتعويمها في أي ثقافة مهما كانت، أما القيم فإنها قد تختلف في الدرجة، أو في رؤية كل أصحاب حضارة أو ثقافة لها. فبعض ما يعتقد فيه جانب من الغربيين أنه من صميم الحرية، ينظر إليه الشرقيون على أنه حرام وعار وخيبة، مثل حرية استعمال المرء لجسده، التي انتهت عند البعض بقبول الشذوذ الجنسي، والإقرار بزواج المثليين. لكن ما يخص الديمقراطية من نصيب في الحريات الثلاث التي ترتبط بالتفكير والتعبير والتدبير، فلا غبار عليها، ولا فكاك منها، وكل ما ينجم عنها هو محل مشاورة ونقاش اجتماعي، لاشك في ضرورته لبناء الديمقراطية.

وقد أقر «منتدى 2000» لحوار الحضارات الذي استضافته براغ هذا التصور تقريبا، حين جعل من الديمقراطية المشكلة الثانية التي تواجه هذا الحوار، أو ما أسماها الديمقراطية على النطاق العالمي Global Democracy حيث نص إعلان المبادئ الذي انتهى إليه المنتدى على أن «هناك ثراء في الحياة الإنسانية على مستوى العالم لا تحده حدود، ومن هنا تأتي أهمية حماية التعددية في صور الحكم والمشاركة السياسية. ولا يمكن ذلك إلا إذا تم الاتفاق على معايير عالمية لاحترام هذه التعددية، وربما كان مفهوم حقوق الإنسان هو خير معبر عن هذه المعايير.

وبالرغم من أنه يمكن القول إنه ليست هناك حكومة صالحة تماماً، فإن معايير للتفرقة بين المؤسسات الديمقراطية والحكم الرشيد والمجتمعات المفتوحة من جانب، والحكومات التي تخرق حقوق الإنسان، وتميز في المعاملة ضد الأقليات ولا تحترم سيادة القانون على الجانب الآخر، تبدو مسألة ضرورية. إلا أن التحدى أمام الديمقراطية على النطاق العالمي يبدو في صياغة أدوات وتأسيس مؤسسات تستطيع أن تحمي القيم المشتركة على نطاق عالمي، والاختلافات المحلية في الوقت نفسه.

* كاتب وباحث مصري