من الفنان المغربي (اليهودي) جاد المليح في مهرجانات بيت الدين 2009 إلى فرقة "بلاسيبو" في "الفورم دي بيروت" هذه الأيام، ومن جائزة "سمير قصير" إلى كتاب "سلطة الإقصاء الشامل" للباحث ساري حنفي، مشهدٌ رتيبٌ واحد يتكرَّر منذ سنوات في لبنان.

Ad

فجأة اكتشف "مناضلو" مقاطعة العدو الصهيوني "ساحرة جديدة" فحاولوا الانقضاض عليها. ينتظرون خبراً من هنا وبلبلة من هناك، ليلمّوا الشمل ويبتكروا بطولات وهمية في مؤتمرات صحافية أو بيانات موقّعة باسم بعض جمعيات ثانوية وعرضية (يمكن وصفها بجمعيات "صيد الساحرات")، أو يعلنون الاستنفار الشامل عبر "الفايسبوك"، أو يرفعون الصوت صائحين: "هلموا واستفيقوا أيها العرب... العدو على الأبواب"... والخاتمة مجموعة مقالات وتقارير تلفزيونية أشبه بأنماط "ثقافة الأنظمة الشمولية".

ودعوة مقاطعة حفلة فرقة "بلاسيبو" في لبنان، بذريعة عرضٍ قدمته الأخيرة في إسرائيل قبل أيام في خضم الهجوم على "أسطول الحرية"، تدعو إلى التأمل في "ثقافة" قائمة على الاعتباطيَّة، خصوصاً حين نتأمل كيف أنّ الفريق المعترض هذا هو نفسه من يقول صباحاً ومساءً "شكراً" لبعض الدول التي تحتضن قادة إسرائيل يومياً، من دون أن ننسى طبعاً همسات السفير الإيراني في الأمم المتحدة في أذني السفير الإسرائيلي ودعوته له إلى الاستثمار في إيران. أليس في ذلك نوع فاقع من الفصام؟!

صار مشروعاً هنا سؤال رئيس تحرير مجلة "الآداب" سماح إدريس (أحد وجهاء الدعوات إلى المقاطعة ومنع بلاسيبو) إن كان يقبل مقاطعة داره بسبب بيعها كتب الفيلسوف جان بول سارتر لأنه في زمانه كان مؤيداً لإسرائيل؟ ولنا أن نسأله كذلك لماذا ترجم رواية "رجل في الظلام" لبول أوستر وهو يعلم أن كاتبها أهداها "إلى الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان وعائلته"؟ ويضيف أوستر أنّ موت يوري، وهو ابن غروسمان، في الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006 ألهمه كتابة الرواية، ويقول: "كافح ديفيد لأجل السلام طوال عمره (...) ذهب مع مثقفين إلى أولمرت يتوسّلون إليه لإنهاء المعارك. وبعد 72 ساعة، قتل ابنه". كل ما فعلته "دار الآداب" أنها حذفت الإهداء في النسخة العربية.

الأرجح أنّ أنصار "صيد الساحرات" يهمّهم قبل كل شيء إيجاد ساحرة جديدة. نتذكر في هذا المجال، أنه في عام 2009، تعرّض الروائي الفلسطيني ربعي المدهون لتعنيف إحدى الكاتبات السوريات لأنه نشر رواية بعنوان "السيدة من تل أبيب"، والحجة هي أن عنوان الرواية هو التطبيع بعينه (!). كذلك تعرض الباحث ساري حنفي لحملة شعواء لأنه كان أحد ثلاثة محررين نشروا كتاباً بالإنكليزية عنوانه "سلطة الإقصاء الشامل"، والسبب أن المحررين الآخرين أدي أوفير وميخال جيفعوني إسرائيليان، علماً بأن المذكورين يعاديان الصهيونية جهاراً. واتُّهمت "جائزة سمير قصير" بالتطبيع لأنها ممولة من الاتحاد الأوروبي الذي يعترف بإسرائيل!

باختصار، يعيش لبنان على وقع معادلة "معنا" أو "ضدنا". معادلة تصنّف شعبه طرفين "الخونة والعملاء" و"أشرف الناس"، وكل ما بين الفئتين المذكورتين من ثقافةٍ وحفلاتٍ وما شابه مجرّد هوامش بائسة في كهوف التصاريح السياسية المليئة بالأضاليل والخالية من أدنى خيال.