ليست الاحتفالات ولا الطقوس دليلا على التخلف، بل لعلي أقول إن رعايتها وتقديرها والعناية بها، هي من التقدم والرقي، لأنها دليل على إدراك الشعوب لنسائجها المجتمعية وجذورها الحضارية وتقديرها لتراثها، والدليل على ذلك هو أن أغلب الدول «المتقدمة»، تعتني بتراثها وفنونها القديمة.

Ad

يبدو لي أن تأثر البعض من «تخلف» العرب حضاريا قد بلغ بهم حدا طاش معه صوابهم، حتى صاروا يعلقون أسباب التخلف على كل مشجب ويعزونه إلى كل شيء، بشكل مبالغ فيه جدا، بل خارج عن المنطق بشكل كبير.

أقول هذا تعليقا على رسالة إلكترونية وصلتني منذ أيام، يسخر فيها أحدهم، وهو كاتب معروف بالمناسبة، وممن كنت أحسبهم على الموضوعية، من مشهد فيديو مرفق بالرسالة، يظهر فيه جمع من الرجال من قبيلة خليجية معروفة، وهم يلتفون حول واحد منهم انهمك بإطلاق صيحات وهمهمات غير واضحة، يكررونها خلفه بطريقة متتالية، والمثير أن مرسل الرسالة لم يتوقف عند حد السخرية من هذا المشهد الذي لم يفهمه، إنما ذهب إلى إطلاق ذلك «الكليشيه» المتهتك بأن هذا هو سبب تخلفنا نحن العرب، وللأمانة فلم يكن هو وحده من قالها بل العشرات ممن شاهدوا المشهد على الإنترنت، وتركوا تعليقاتهم تحته.

لكن تعليقات رواد الإنترنت المجهولين ليست ذات قيمة على الإطلاق عندي، لأنه لا يمكن الاعتداد بها طالما أننا لا نعرف على وجه الدقة من كتبوها، فلا نعرف مستواهم العقلي والفكري، ولعلهم ليسوا أكثر من شرذمة من بسطاء التعليم والثقافة أو الجهلة، أو حتى المتخلفين عقليا أو نفسيا، ولكن ما يستفز حقا هو عندما يصدر نفس القول ممن يريد منا أن نحسبه على الفكر والرأي، فحينها يختلف الأمر بالكلية.

يا سادتي، ليس من حق أحد أن ينكر على قوم «فنهم» أو «أدبهم»، حتى لو خيل إليه أنه ليس من الفن أو من الأدب، لأن الفنون والآداب ليست فنونا وآدابا إلا بمقدار إحساس أهلها وتقديرها لها، لا الآخرين، ومن الغباء حقا أن يصم الإنسان كل ممارسة لا يفهمها ولا يدرك معناها بأنها مظهر من مظاهر التخلف، فلو جاز هذا لصارت أغلب عادات الشعوب وتقاليدها حول العالم، من مظاهر التخلف عند الآخرين.

ولو صح لأحد أن يصف هذا المشهد الذي ظهرت به تلك القبيلة وهي تمارس فنا من فنونها غير المفهومة عنده بأنه تخلف، لصار لزاما عليه أن يحتقر وبالمثل تلك الاحتفالات التي لايزال يقيمها الهنود الحمر في أميركا ويتحلقون فيها حول النيران ويقرعون الطبول ويطلقون صيحات لا معنى لها بالنسبة لنا، بل لوجب أن ينسحب الأمر على احتقاره لأميركا بأسرها لرعايتها وتقديرها لمثل هذه الاحتفالات البدائية. بل سأزيد لأقترب من دائرة سيفهمها الجميع، وأقول لصار لزاما عليه أن يسخر من رقصة «العرضة» الشائعة عندنا، والتي يظهر بها أهلنا وهم يتمايلون على صوت الطبول حاملين سيوفا يلوحون بها، ونحن في عصر الصاروخ العابر للقارات وأشعة الليزر!

لا يا سادة، ليست هذه الاحتفالات ولا الطقوس دليلا على التخلف، بل لعلي أقول إنه على العكس من ذلك، فرعايتها وتقديرها والعناية بها، هو من التقدم والرقي، لأنه دليل على إدراك الشعوب لنسائجها المجتمعية وجذورها الحضارية وتقديرها لتراثها، والدليل على ذلك هو أن أغلب الدول «المتقدمة» في نظر هذا الساخر وأشباهه، تعتني عناية كبيرة بتراثها وفنونها القديمة على الرغم من بدائيتها، بل وتقيم لها الكرنفالات والمعارض والمتاحف.

نعم، لتخلفنا نحن العرب أسباب كثيرة، لا يتسع هذا المقال للحديث عنها، لكن من الثابت عندي أن هذه الطقوس الشعبية ليست منها أبدا، وعلى من يظن عكس ذلك أن يراجع مقاييسه ويضبط معاييره.