بريطانيا ليس هي لندن فقط ... كما يحلو لأغلبية السائحين... بريطانيا هي هذه المساحة الهائلة والمتنوعة في جمال تضاريسها التي لا تشبه أحدا، وحينما كنت أحفظ الدرس الجغرافي غيباً عن بريطانيا وعن طبيعتها الرعوية، لم أكن أعرف أنها فعلاً بلاد صالحة لرعي وتربية المواشي بكل أنواعها، إلا حينما بدأت في التنقل والترحال في مقاطعاتها وفي أرجائها الشاسعة المتنوعة في أشكال تضاريسها الجميلة الممتدة ما بين التلال المترامية المعشقة في إخضرارها المتدرج في ألوانه، من أقصى الأخضر المزرق إلى الأخضر بلون قلب فاكهة الكيوي، وما بينها من تشكيلات لونية لا حصر لها، من زهور برية متدلية من أجراسها الزرقاء، أو من براعمها الفوشيا، أو تلك المتفشية على أسطح البرية بأصفرها الفاقع أو أبيضها المتلألئ مثل رقاقات الثلج... جمال ما بعده جمال، مساحات وتلال منفلتة على مد البصر كلها بذات السخاء المبهج في فتنته، والمبهر في حسنه، ومما يزيد من طغيانه وغيه، هذا المحيط الأطلنطي الهادر الذي يلف هذه المقاطعات بخلجانه التي لا أروع ولا أبهى منها خاصة في فصل الربيع الذي تتفجر فيه صخب الألوان وتفيض في أعلى زهوها وبهرجتها.

Ad

وفي هذا الربيع، مايو 2010، تنقلت في مقاطعة كورنول التي تقع في الجزء الجنوبي الغربي من بريطانيا ويحيط بها المحيط مقابل أميركا.

هذه الرحلة من أروع الرحلات التي شاهدت فيها فيض هذه الطبيعة الممتدة ما بين الخلجان والتلال التي هي مراعٍ للمواشي من الدرجة الأولى. كورنول مقاطعة تمتد فيها مدن وقرى عديدة، كلها تستحق المشاهدة، لأنها بالفعل في غاية الجمال والسكينة والطبيعة البرية البريئة التي حافظت على شكلها الطبيعي من دون تدنيسها بكل مبتكرات الحضارة الزائفة، كل ما فيها مازال بكرا كما خلقه الله وأوجدته الطبيعة، هواء ونسيم لا مثيل لطزاجته، والضوء يشف في صفائه، والبحر لم تُمس أعشابه وقواقعه ورماله، كل شيء في الطبيعة حافظ الانكليز على بقاء أصله، وهذا هو المفهوم الأصلي للحضارة.

المحافظة على الثروة الطبيعية هي من أهم صفات الشعب البريطاني، دائما هناك قانون محترم لا ينتهك حرمة الطبيعة، ولا يدمر شكلها الطبيعي، لا بمبانٍ رخامية ولا أسمنتية ولا بسيراميك، كل المواد المستخدمة بسيطة ومتناغمة ومتسقة مع طبيعة ما حولها، مع اهتمامه غير العادي بتنسيق الحدائق، فمع كل ما يحيط بهم من طبيعة طافحة بالحسن وبالألوان، فإن حدائق البيوت تنافس الطبيعة في كل ما حولها من سباق للجمال. زيارة كورنول أحد المباهج التي تسعد الروح، فعلا هي تستحق المشاهدة، من عاصمتها Truro إلى St.Austell ومدينة Fowey وساحل Polperro وSt.Mawes وميناء Port Issac ومدينة St.Ives وحتى تصل إلى مدينة Lands End حينئذ تكون في نهاية الأرض البريطانية من الجنوب الغربي المقابل لأميركا، وبقفزة واحدة تبات في المحيط وتنتهي الأرض. كل هذه المدن التي ذكرتها ملتفة ومطوقة بالسواحل وبالشواطئ الرائعة التي لم أرَ مثل طبيعة خلجانها التي لم تُمس ولم تُجرح براءة تكوينها وعنفوانها البري. وهناك مدن وقرى كثيرة لم أشاهدها، ربما مدة شهر تكفي لتغطيتها، لكن ما ذكرته هو تلخيص لرحلة جميلة. وفي النهاية تبقى في الذاكرة تلك الحديقة السرية التي سكناها، في تلك الغابة المنسية في حضن التلال الرعوية وهي تعتبر من الأملاك التي تحت إدارة اليونسكو. فسلام لذلك السكون القابع في همس غاباته، ولعذوبتها الغارقة في سلامها الأبدي، ولعمر ذاب قطرات في رحيق نشوتها الغامض.