تجريم مشايخ التكفير
في خطوة نوعية مهمة تقدم الدكتور زهير الحارثي- عضولجنة حقوق الإنسان بمجلس الشورى السعودي- بمقترح يطالب فيه بسن تشريع يجرم فتاوى التكفير من خارج المؤسسة الدينية الرسمية، بهدف وضع حد لهذه الفتاوى التي تزايدت في الآونة الأخيرة، وبرر الحارثي مقترحه بأن هذه الفتاوى تجاوزت إشكالية التكفير، ووصلت إلى حد المساس بالدين وقيمه وروحه وقيم الوحدة الوطنية والانتقاص من هيبة الدولة والإساءة إلى العلاقات الخارجية. وأهاب الحارثي بالمجلس أن يتحرك لحفظ دماء المسلمين وحماية الشريعة من التشويه، مؤكداً أن إصدار تشريع يجرم فتاوى التكفير لم يعد ترفاً بل ضرورة، ورأى أن السكوت على تنامي ظاهرة فتاوى التكفير هو «جريمة بحق الوطن» واصفاً الفتاوى بأنها أصبحت «بازاراً» لـ«إهدار الدم وتكفير الآخرين وتكريس مفاهيم الإقصاء» ولا شك أنه إذا تم تبني المشروع فإن من شأنه أن يجفف منابع وروافد الفكر المتشدد في الساحة.
لقد ابتليت المنطقة وابتلي المثقفون الإصلاحيون بخطباء ودعاة لا همّ لهم إلا تكفير الآخرين، لا يراعون حرمة لمسلم ولا يقيمون وزناً لحياته ولا سمعته ولا كرامته، يسارعون إلى تكفير كل من خالفهم في رأي أو اجتهاد، يستسهلون تكفيره لأدنى سبب مع أن تكفير المسلم حكم عظيم، وهو من أكبر الكبائر وأعظم الآثام، بل أشد من حكم القتل، لأن آثار التكفير تمتد إلى الأسرة والأهل والقبيلة وتلحقه حياً وميتاً. وقد تشدد الإسلام فيه وحذر منه الرسول- صلى الله عليه وسلم- «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه». إن أكبر إثم يرتكبه أي مسلم في أي زمان ومكان ضد أخيه المسلم أن يكفره، وهو يعلم أنه ينطق بالشهادتين لمجرد الشبهة وسوء الظن والاستنتاج الخطأ من الأقوال والمقالات، وإذا كان الإسلام أمرنا أن ندرأ الحدود بالشبهات فالتكفير أولى أن يدرأ بها، فما بال هؤلاء القوم لا يفقهون ولا يتبصرون؟!النصوص القرآنية تحذر من تكفير من نطق بالشهادتين مهما كانت المبررات والأسباب وتتوعد بالعذاب الشديد من يرتكب هذه الجريمة، ودعاة التكفير يسرحون فوق منابرنا ويستطيلون عبر إعلامنا، ويسارعون إلى تكفيرنا من غير حسيب أورقيب، دعاة التكفير مثل دعاة الإرهاب لا فرق عندي، ويجب توقيفهم ووضع حد لإساءاتهم، لقد تنامت فتاوى التكفير وأصبحت تشكل «ظاهرة» من الظواهر البائسة في مجتمعاتنا، وواجب السلطات الرسمية التدخل لحماية معتقدات الناس وكرامتهم. ومما يؤسف له أننا لم نجد تحركاً فاعلاً لا من المؤسسات الدينية ولا من المجامع الفقهية للمطالبة بسن تشريع ضد دعاة التكفير، فالمثقفون الإصلاحيون وحدهم في الميدان يواجهون هؤلاء المكفرين، ولا يجدون سنداً ولا عوناً لا من الرأي العام ولا من الدولة ومؤسساتها، ويتعرض المثقفون الذين يجاهدون مشايخ التكفير لكل أنواع التهم والتشكيك في عقيدتهم ووطنيتهم وتلصق بهم أسوأ الأوصاف والنعوت، فهم عملاء وخونة وتغريبيون وملاحدة وزنادقة ومنافقون... إلخ. ولا يستطيعون حماية أنفسهم برفع دعوى على هؤلاء المكفرين لأن القانون- للأسف- لا يسعفهم، ومن عجائب الحياة العربية بل من مهازل تشريعاتها الجزائية أنك لو قلت للشيخ الذي كفرك: أنت متطرف، يستطيع مقاضاتك ويكسب التعويض- كما حصل للدكتور جابر عصفور- ولكن الشيخ إذا كفرك فلن تستطيع مقاضاته!المشايخ في مجتمعاتنا محصنون بمكانتهم الدينية والاجتماعية، وهم فوق القانون، والويل لك إذا تعرضت لهم! بطبيعة الحال هناك الرافضون لصدرور تشريع ضد دعاة التكفير، وهم كثر، ويجادلون في الأمر، ويقولون إن فتاوى التكفير ليست «ظاهرة» وإن الذين يكفرون هم بعض صغار طلبة العلم الجهلة، ولا أدري كيف ينكر هؤلاء ما يحصل في الساحة من أن الذين يكفرون هم كبار المشايخ أهل العلم والمكانة الذين يملكون الجرأة على التكفير لا الصغار؟! وإلا ما تفسير تكفير الشيخ عبدالرحمن البراك لمن سمح أو أباح الاختلاط. فالشيخ عبدالرحمن عالم كبير له تلاميذ وأتباع وله مكانته في الأوساط الدينية، وهو أكاديمي متقاعد، وهو من قبل مارس 2008 كفر كاتبين سعوديين بسبب ما حسبه من آراء تكفيرية في مقالتيهما بصحيفة "الرياض"، وكذلك الشيخ صالح اللحيدان وهو رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق في السعودية الذي أفتى بقتل أصحاب الفضائيات كونهم مفسدين في الأرض، والدكتور ناصر العمر الذي حرض الشباب المتحمس للجهاد لأنه بدلاً من الذهاب إلى العراق فإن عليهم أن يجاهدوا العلمانيين والليبراليين لأنهم منافقون وسماه «الجهاد الأعظم». وليس الأمر مقتصراً على الكبار فجامعة الإمام في الرياض منحت الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى لباحث سعودي «سعيد الغامدي» على رسالته «الانحراف العقيدي في أدب الحداثة وفكرها» كفر فيها 200 مثقف عربي، وحكم عليهم بالارتداد واستباح دماءهم، واتهم الشعراء العرب الحداثيين بأنهم شعراء الدعارة والإلحاد والشرك النجس! فهل يستطيع أحد مقاضاته أو مقاضاة جامعة الإمام؟ بل إن الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان أصدرت بياناً كفرت فيه «الحركة الشعبية» وكل من هنأ المسيحيين في أعيادهم! وعدوا كل شيوعي كافرا وإن كان يصلي!هناك من يجادل في كونها «ظاهرة» لكن هؤلاء يتجاهلون حجم الظاهرة التي لم ينجح بها أحد بدءاً بتكفير الفنانين مثل عبدالله الرويشد وانتهاء بكتاب ومفكرين، بل حتى علماء دين مشهورين مثل الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله تعالى- وهناك من يدافع عن فتاوى التكفير بأنها مجرد رأي متشدد لا ينبغي القياس عليه عملاً بحرية الرأي، ولكن هل يعقل أن يكون اتهام الإنسان في دينه وإخراجه من الملة واستباحة دمه وتعريض أسرته للمخاطر، مجرد حرية رأي؟! وهناك من يدافع عن مشايخ التكفير بحجة أن بعض المريدين أوقع بالشيخ عن طريق الأسئلة المبطنة بهدف تصفية الحسابات والإثارة الإعلامية! عبر ما يسمى بصناعة «الفتاوى الملغمة»، ولكن لماذا يكون الشيخ بهذه الغفلة فلا ينتبه للمزالق فيسارع إلى التكفير؟!وأخيراً هناك التبرير الذي هو أقبح من الذنب والذي يقول إن فتاوى التكفير هي مجرد ردود فعل ضد استفزاز العلمانيين والتغريبيين للمشايخ، وتطاولهم عليهم واستهانتهم بالمقدسات والثوابت الدينية، وهو مغالطة مكشوفة، فأولاً لم يستفز أحد هؤلاء المشايخ، بل بادروا إلى التكفير ابتداء، وإلا فهل استفز ميكي ماوس الشيخ الذي أمر بقتله؟ وهل القول بجواز الاختلاط مع الضوابط الشرعية مبرر بإصدار فتوى بالتكفير؟ وثانياً: هل المطلوب من المثقفين السكوت على أطروحات الفكر المنغلق وعدم نقد الآراء المتشددة حتى لا يستفزوا المتشددين فيكفروهم؟! وثالثاً: هل يتخلى المثقفون عن دورهم في الدعوة إلى الحريات وإلى إنصاف المرأة وإلى الانفتاح تجنباً لفتاوى التكفير؟ كل هذه التبريرات ساقت لسبب بديهي، هو أن ثقافة التكفير ثقافة راسخة في الأرض العربية ولها جذورها وامتداداتها التاريخية إلى الخوارج الذين كفروا الصحابة واستحلوا الخروج المسلح عليهم، مروراً بالفقهاء الذين اعتقدوا أنهم أصحاب «الفرقة الناجية» وكفروا الملل والفرق الأخرى، وانتهاء بـ«إخوان» السعودية الذين كفروا جميع المسلمين خارج منطقتهم، فتصدى لهم الملك عبدالعزيز في واقعة «السبلة» المشهورة. والمكفرون المعاصرون هم بقايا هؤلاء الغابرين، تمكنوا من منابر التوجيه وأصبحت لهم مواقع إلكترونية، ولهم أنصار ومريدون وجنود يحامون عنهم وينشرون فتاواهم، ويأتمرون بأوامرهم، فيذهبون إلى أندية المثقفين ليفسدوا عليهم، ويثيروا شغباً وفتنة! ترى ما الذي يدفع الشيخ المكفر إلى هذا الجزم والقطع في التكفير؟ ولماذا لا يتروى ويتأنى ويتبصر؟ إنها الأوهام الحاكمة لنفسيته وعقليته، تصور له تملك الحق المطلق، وتزين له حق الوصاية على المجتمع وتعطيه حق الاستعلاء على الجميع، فهو الممثل الحقيقي للدين والحارس الأمين عليه، هذه الأوهام هي محصلة ونتاج مناهج تعليمية أحادية، ضاقت بالرأي الآخر، وزرعت في نفوس طلابها مفاهيم تعصبية وإقصائية بزعم أن العقيدة الصحيحة واحدة، وأن الرأي الصواب واحد، وكل ما عداهما باطل وضلال، فالاختلاط حرام قولاً واحداً، وكشف المرأة لوجهها حرام، والموسيقى والأغاني حرام، والتصوير حرام، وحالق اللحية فاسق، والمسبل لثوبه فاسق... إلخ.والمكفرون في الحقيقة هم ضحايا هذا المنهج التعليمي الأحادي، ويستمر منهج التكفير متدفقاً مادامت منابعه وروافده باقية، ومادام الفكر المتشدد يصول ويجول من غير حسيب أو رقيب من القانون، فاجتثاث ثقافة التكفير يتطلب التفاتاً جاداً إلى المنبر التعليمي أولاً، والمنبر الديني ثانياً، والمنبر التشريعي ثالثاً، إن «قمة مكة» في عام 2005 جرمت الفتاوى التحريضية وأكدت صحة إسلام كل المذاهب الإسلامية المؤمنة بأركان الإسلام، وطالبت بـ«مرجعية فقهية» موحدة للحد من فوضى الفتاوى في العالم الإسلامي، ويبقى على الدول الإسلامية أن تصدر تشريعات تجرم فتاوى التكفير تماماً مثل جرائم الإرهاب، إذ لا فرق بين الإرهابي والمكفّر فهما وجهان لعملة واحدة.* كاتب قطري