مشاركتي الإبداعية مع النفس، ومع الآخر، ومع الحياة كشاعر مدفوعةٌ بهاجس أخلاقي. ولنقل إن هذا الهاجس الأخلاقي هو واحدٌ من الينابيع المغذية للنص الشعري. أقول ذلك حتى إذا اتصل الأمر بقصيدة بالغة الذاتية. لأن الموقف من النفس، أو الحوار المتأمل، والصراع المحتدم معها، إنما هو مدفوعٌ بذلك الهاجس. أوضح إشارة قرأتها مؤخراً للشاعر البولندي زبيغنيو هيربرت يقول فيها إن الحضارة تعتمد على الفنانين الذين يتخذون مواقف أخلاقية واضحة، مقاومة لرياح التاريخ والأيديولوجيا.

Ad

قد يحتاج تعبير كهذا إلى توسع، لأن الموقف الأخلاقي لدينا كثيراً ما يُخلط بالموقف السياسي. فينفر منه الطليعيون المهووسون بالتغيير، بأي ثمن، مع أن الموقف الأخلاقي للشاعر يتعارض مع الموقف السياسي، أو أي موقف عقائدي. القصيدة "الوطنية!" إذا ما كُتبت من زاوية نظر أيديولوجية قصيدة تجعل الوطن المسكين مجرد وسيلة احتراب. وإذا كُتبت بدافع الفخر فهي تأليب للعاطفة الشوفينية. على أن قصيدة حب الوطن لابد ستذهب، شأنها شأن أية قصيدة حب، إلى الطبيعة، والجمال، والعطاء، التي تشكل مصادر للمصلحة الروحية أو المادية المتبادلة. ودون ذلك فستكون إقحاماً للشعر في مهمة خادعة لإيهام القارئ، لأن الشعر بهذا التوجه يُعلي من شأن "فكرة" مجرّدة على حساب الإنسان، الذي يعرف الوطن عبر ذلك التبادل الدائم للمصالح الروحية والمادية.

أنا أقاوم الإنسان الذي يسعى إلى انتهاك حرمة بيتي، أو يسعى إلى هدمه. الإنسان في الشاعر، شأن كل مواطن، يقاومُ القوةَ التي تسعى إلى انتهاك وطنه الذي يقيم فيه، أو هدمه. سواء أكانت هذه القوة خارجية أم داخلية. ولا يمكن أن تكون هذه المقاومة مصدر خلاف قاطع، شأن الخلاف بين المواقف الأيديولوجية في أية حركة مقاومة (طالبان وبن لادن خير مثال). أما مسعى الشاعر في الإنسان فينطوي على حوافز ودوافع، وعلى وسائل وأدوات، وعلى غايات وأهداف في كتابة قصيدته، تختلف في الجوهر عن دوافع، ووسائل، وغايات المقاومة الجسدية والإعلامية، التي قد لا يُحسنها الشاعر مطلقاً.

في عام 1991، وبعد حربي الخليج كتبت قصيدة طويلة بعنوان "قارات الأوبئة". السنة التي لا تجرؤ أن تلتفت إلى سنوات العقد الذي سبقها. عقد الحربين العابثتين المدمرتين. كتبتها وأنا أحدق في رماد وطن لا مُستقر لي دونه، ولا ملاذ. وكانت بي رغبة في أن أنتزع هذا الرماد من داخلي، أضعه في قصيدة وأحكم إغلاق فوهتها، وأُلقي الزجاجة في البحر.

كانت معظمُ القصائد التي سبقتها في المجاميع الشعرية: "أرفع يدي احتجاجاً"، "جنون من حجر"، و"عثرات الطائر" لهاثَ رجل هارب من كابوس الوطن. وكنت أريد أن أُوقف هذا اللهاث، وهذا الهرب باستعادة شعرية تودعهما في قصيدة، كما تودع كاميرا المصور اللقطةََ الخاطفةَ في ورقة الفوتوغراف إلى الأبد. ولكنها كانت إرادةً واهمةً بالتأكيد. فما زلتُ أجدُني هارباً، ولكن دون لهاث هذه المرة. القصيدةُ إذن محاولة تعبير عن مأزق روحي إزاء سطوة التاريخ والأيديولوجيا معاً. سطوة دكتاتورية الحزب الواحد والزعيم الواحد، وسطوة تناحر العقائد العمياء. مأزق الكائن الإنساني الذي يجد نفسه، ما ان يدخلَ مرحلةَ أول الشباب، في محنة حرمانه من هويته كإنسان. يجد نفسه مُقحماً في زنزانةِ "رقمٍ" لا مخرج منه. هندستْه السلطةُ، وممثلو الجماهير ببراعة. القصيدةُ، بهذا المعنى، ليست استجابةً للتأريح، بل العكس. وهي ليست انتصاراً للوطن، ولا لزاوية نظر مجردة بشأن الوطن. وهي ليست معنية بالشأن العام، أو الشأن الخاص، بالمعنى الذي نعهده في النثر. بل هي رؤية شاعر تتمازج فيها الصورةُ الخيالية والصورة الواقعية عبر حسّيتهما المشتركة. رؤية مستوحاة من حياة خاصة، وحياة عامة، ولكن لا عبر زاوية نظر عقلية، أو موقف مُعقلن. الشاعر فيها نخلة في بيت تحت عصف الريح.

ما أروع هذه القصيدة القصيرة للشاعر البولندي هيربرت زبغنيو عن موقف الشاعر الأخلاقي:

الحصى لا يمكن ترويضُه

سيظل ينظرُ إلينا حتى النهاية

بعيونٍ هادئةٍ بالغةِ الوضوح.