ليس المطلوب منا أن نقول كل ما يجب أن يُقال دفعة واحدة، ولكن من النقصان وعدم الاكتمال، ألا نذكر بعض الحقائق، ولو جاء هذا الذكر متأخراً، خصوصا في وضع كالوضع العراقي المتشابك، تشابك أغصان الغابة، والذي بقي فترة من الزمان بعيداً عن تناول البحث والباحثين، والعلم والعلماء السياسيين والاجتماعيين المتخصصين، ما عدا القلة القليلة (حنا بطاطو، وعلي الوردي، وكاظم حبيب وغيرهم).
غياب القراءة الأميركية لداخل العراقمن الحقائق التي لم نأتِ عليها، خلال السنوات السبع الماضية، من تاريخ العراق الجديد، ومنذ 2003، هي ما يتضمنه هذا السؤال:هل قرأ بوش وقرأت الإدارة الأميركية العراق من الداخل جيداً، قبل أن تُقدم على غزو العراق، وتندفع وراء المعارضة العراقية في الخارج، التي كان لها مصلحة في هذا الغزو. وبانت هذه المصلحة في الفساد السياسي والمالي وصراع الديكة على السلطة كما نرى الآن، إلى الحد الذي دفع مجلة "لوموند ديبلوماتيك" (مارس 2010) وعلى لسان كاتبها نيرروزن، الباحث في مركز القانون والأمن، في جامعة نيويورك إلى القول: "الحكومة العراقية الحالية فاسدة، وعنيفة، وقمعية. إنما قوية وواثقة من فوزها. وتُبدي تصميماً على فرض سلطتها بالكامل. فقد أخطأ من كانوا يأملون المصالحة بين الطوائف، فهي لن تحصل، وليست ضرورية، إذ تحول المالكي إلى صدام حسين جديد". وقد سبق أن أدركنا هذه الحقيقة، وأعلنّاها عدة مرات، هنا في "الجريدة" في مقالات سابقة متتالية، منها: "هل علمنا بعودة المماليك للعراق؟"، و"من عراق الدكتاتور إلى عراق الدكتاتوريين"، و"خسائر العراق والعرب من تلاعب الدكتاتوريين الجدد"، وغيرها. والتي كان لها جذور تاريخية.أول حاكم يُنقِّب عن الجذورفهل قرأ الرئيس السابق بوش ومستشاروه في شتى المجالات، ما قاله الملك فيصل الأول عام 1932، قبل أن يقرروا غزو العراق، وحرث الأرض، التي اكتشفوا فيما بعد أنها (سبخة) وشديدة الملوحة، وتحتاج إلى وقت طويل وجهد عظيم لاستصلاحها، وإعدادها، لتكون صالحة لزراعة النبتة الديمقراطية؟لقد قال الملك فيصل الأول، ملك العراق، آنذاك عن الشعب العراقي: "وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتل بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد، وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى، مستعدون دائماً للانقضاض على أية حكومة كانت. فنحن نريد والحالة هذه، أن نُشكِّل من هذه الكتل شعباً، نُهذبه، ونُدربه، ونُعلمه. ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين، وهذا التشكيل. وهذا هو الشعب، الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي". (عبد الرزاق الحسني "تاريخ العراق السياسي"، ج1، ص12). ومن المعروف أن القدر، لم يُمهل الملك فيصل الأول لتنفيذ مهمته التاريخية الصعبة، فقد رحل بعد ثلاثة أشهر من هذا الإعلان الخطير.حقائق أخرى غابت عن أميركاوإذا فات الرئيس السابق بوش قراءة مثل هذه الحقيقة، فقد كان عليه- قبل غزو العراق- ألا تفوته حقائق كثيرة، جاءت في "التقييم الاستراتيجي لديناميكيات النزاع في العراق" الذي كتبه فريق أبحاث متخصص، وفيه حقائق كان يجب على كل مسافر إلى العراق– وليس غاز فقط- أن يعيها، ويحسب حسابها. خصوصا العلاقة الجيوسياسية بين إيران والعراق من جهة، وبين سورية والعراق، فإيران ترتبط مع العراق بأطول خطوط الحدود، وكذلك سورية. كذلك، فإن إيران لها منذ 1988 ثأراً كبيراً لدى بعث العراق الذي حاربها ثماني سنوات، وأفنى مئات الآلاف من جنودها ومواطنيها، وكبدها خسائر هائلة في المال والولد. أما سورية، فكان لها ثأر آخر مع بعث العراق، وهو تمرده على القيادة القطرية البعثية السورية، وإنشاؤه القيادة القومية البعثية العراقية، واحتضانه لميشيل عفلق مؤسس حزب البعث. ويتحدث "التقييم الاستراتيجي لديناميكيات النزاع في العراق" عن هذه الحقائق التي لعبت دوراً مهماً وفاصلاً في الحالة العراقية بعد 2003. وهذه الحقائق– كما يبدو- لم يعرفها الرئيس السابق بوش وإدارته، وإن كانوا قد عرفوها فقد تجاهلوها لأسباب عدة، سوف نكشف عنها فيما بعد.العراق والابتلاء من الجيرانمن المعروف أن إيران وسورية معاديتان لأميركا، وتمثل إيران أحد الأطراف الأساسية في العداء لأميركا، فالوجود الأميركي، إضافة إلى مشكلة الملف النووي أوجدا حالة من العداء المرير لأميركا، وقد أدَّت العلاقة السيئة بين إيران وأميركا إلى الإضرار الكبير باستقرار، ومستقبل العراق. وقامت إيران بمحاربة أميركا على الأرض العراقية، وليس على الأرض الأميركية، أو الإيرانية، كما تقوم إيران بالضغط العسكري على أميركا بواسطة "جيش المهدي" والصدريين، ودعم أصدقائها في السلطة العراقية. ويقول "تقييم الاستراتيجية لديناميكيات النزاع في العراق"، إن إيران كانت تُهيئ على مدى عقود، المجلس الأعلى للثورة الإيرانية في العراق بزعامة الحكيم الراحل، و"فيلق بدر" و"حزب الدعوة" و"منظمة العمل الإسلامي" ومجموعة من رجال الشيعة، على أمل تصدير الثورة الإسلامية إلى العراق قبل 2003، وبعد هذا التاريخ.سورية الخاسرة في العراق الرابحة في لبنانأما عن العلاقة السورية-العراقية، فيؤكد "التقييم الاستراتيجي لديناميكيات النزاع في العراق" أن السياسة السورية في العراق، هي سياسة تدخل نشط لإضعاف التأثير الأميركي، وزعزعة الخطط الانتقالية، وإعادة تأهيل العراقيين الذين يقاسمونها الإيديولوجيا ذاتها. ولكن سورية خسرت سورية السوق العراقية (3 مليارات دولار)، وتركته لإيران التي حققت فيه مبيعات بلغت عام 2009 ستة مليارات دولار. ومن المنتظر أن تصبح 9 مليارات دولار في 2010، وساءت علاقة سورية بالسُلطة الحاكمة في العراق، ومن جهة أخرى، خضعت سورية وانسحبت من لبنان 2005، ولكنها عادت إلى لبنان بعد خمس سنوات 2010، أقوى مما كانت سابقاً، وأخضعت معظم لبنان لسلطتها، بمن فيهم معظم زعماء المعارضة اللبنانية (الحريري، وجنبلاط، والجميل). وأصبح لبنان تابعاً لسورية سياسياً وعسكرياً، يقول ما تقوله وتقبله سورية في المحافل الإقليمية والدولية، ويرفض ما ترفضه، وهو ما اعترف به البطريرك صفير، في حديثه الأخير، في فضائية "العربية".* كاتب أردني
مقالات
هل قرأ بوش العراق من الداخل؟
23-06-2010