الشباب... ليس مرحلة عمرية من مراحل العمر، بل هو شعور نفسي يستقر في الروح الحية فيرهف عزيمتها، ويوقد خيالها، وينشط عواطفها، ويغلب شهوتها للمغامرة على حساب الراحة، والناس لا يشيخون لأنهم عاشوا عددا من السنين، إنما يشيخون لأنهم هجروا رغبتهم وحبهم للحياة!

Ad

وكما أن توالي السنين يترك أثراً متجعداً على جلودنا، كذلك ترك الحماسة لما هو آت، والقلق الدائم من الموت، والشك في جدوى الاستمرار في الحياة، وعجز المرء عن الإيمان بقدرته على الإنجاز، تترك تجاعيدها على أرواحنا، وتجعلنا نحني الرؤوس بانتظار النهاية، فنتحول الى تراب يطأ التراب في حله وترحاله!

لكن الإنسان الذي يحيا حياته كما ينبغي له أن يحياها، مستمتعا بكل لحظة يعيشها، لن يكترث إن كان في السبعين أو في السادسة عشرة من عمره، فقلبه على الدوام عامر بحبه وتطلعه لكل جديد ورائع، وروحه ممتلئة بدهشة طفولية حلوة كلما رأى النجوم وما يشبهها من الأشياء والأفكار الساطعة المضيئة، وجرأة ماضية تتحدى خطوب الدهر، وشوق في معرفة لا تنتهي، وبشاشة زاخرة بالمرح للغد وما سيأتي به.

وقد صدق من قال متفائلاً إن "الحياة تبدأ بعد السبعين" فالكثير من العظماء عبر التاريخ، أنجزوا أعظم وأجمل أعمالهم بعد هذه السن المتأخرة، لأنهم آمنوا بجمال الحياة التي مُنحوها، وقيمة اللحظة التي يعيشونها، وبأن الشباب إحساس وشعور يغمر النفس وليس مرحلة عمرية مؤقتة.

ففي الرابعة والسبعين من عمره ألف الفيلسوف الألماني الكبير "كانت" ثلاثة مؤلفات له في الأنتربولوجيا والميتافيزيقيا والأخلاق!

وبين السبعين والثالثة والثمانين أضاف الثري الأميركي "فندربلت" إلى ثروته مئة مليون دولار، وهي في زمننا هذا تعادل قيمتها العشرة مليارات... وربما أكثر!

وفي سن الرابعة والسبعين ألّف الموسيقي الإيطالي الشهير "فيردي" مقطوعته الأوبرالية "عطيل"، وهي آية من آيات فن الأوبرا، ثم ألّف وهو في الثمانين من عمره "فالستاف" وفي الخامسة والثمانين "أفي ماريا" و"ستارت مايتر" و"ته ديوم"!

وفي الثامنة والسبعين من عمره أنجز العالم الفرنسي "لامارك" مؤلفه الكبير في عالم الحيوان بعنوان: "التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية"!

وفي الثمانين من عمره بدأ الروماني "كانو" يتعلم اللغة اليونانية!

ولم ينجز الأديب الألماني "غوتة" عمله الشهير "فاوست" إلا حين أتم عامه الثمانين!

وفي الثامنة والتسعين رسم الفنان الإيطالي "تشن" لوحته التاريخية للمعركة البحرية الشهيرة "ليبانتو"!

إذن... ومن خلال إنجازات هؤلاء العظام في سنين متأخرة من حياتهم، ندرك حقا أن المرء شاب بقدر ما أوتي من إيمان بقيمة الحياة، وعجوز بقدر ما يملأ قلبه من شك، وصغير بمقدار ثقته بنفسه، وكهل بمقدار وجله، وفتى بحساب الأمل، وشيخ بحساب الأيام والسنين.

وما دام القلب يتلقى رسائل الجمال، والتفاؤل، والتفكير بأن الغد دائماً أجمل، فهو شاب، ومتى وهنت الأسباب التي بينه وبين الحياة، وطمرت قلبه ثلوج التشاؤم والشك والخوف واللامبالاة، فقد شاخ حقاً، وصار يحق له وهو في أواخر الخمسينيات من عمره أن يتحدث عن الموت وينتظر قدومه، مردداً عبارات مثل "يالله حسن الخاتمة"... و "ما بقى من العمر كثر ما مضى" وهو ربما بينه وبين موته المنتظر ضعف ما عاش من عمر، لكنه إحساس الشيخوخة الذي يختاره البعض بإرادته، فيما يختار العظماء إحساس الشباب حتى آخر لحظة من حياتهم متشبثين به... لا يريدون عنه حولاً!