الدولة تأسيساً وإصلاحاً في ضوء التجربة السعودية

نشر في 24-09-2009
آخر تحديث 24-09-2009 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري أمس 23 سبتمبر 2009، مرت الذكرى السابعة والسبعون لقيام دولة عربية هي المملكة العربية السعودية التي أعلن مؤسسها الملك عبدالعزيز آل سعود قيامها عام 1932.

وعند البحث في مسألة الدولة العربية المعاصرة لابد أن نتأمل -بدايةً- المعطيات التالية (التي تمثل القناعات الفكرية لكاتب هذه السطور والتي طرحها في مؤلفاته).

1) إن دول الخلافة الإسلامية كانت بمنزلة روابط معنوية أكثر مما هي مؤسسات واقعية تمس بصورة مباشرة حياة رعاياها. وما يمكن قوله عن آخر دولة خلافة -وهي دولة الخلافة العثمانية- فإنه لم يكن لها من وظيفة في أكثر الأقطار العربية الإسلامية غير التجنيد الإجباري لمقتضيات الحروب التي كانت تخوضها، وجباية الضرائب من الناس.

2) هكذا فليس من المبالغة القول إن العرب لم يدخلوا «مدرسة السياسة»، حيث الدولة في تجارب الأمم هي مدرستها و«الدولة» لم ترد نصاً في القرآن الكريم. وفي اللغة العربية تعنى «تداول» السلطة والمال بالقوة، بينما الدولة -لغةً- عند الآخرين تعني «الحالة الثابتة». وهذا يفسر كون الحضارة العربية الإسلامية متواضعة في إرثها السياسي ومصابة بأنيميا سياسية رغم غناها المدهش والرائع في الجوانب الروحية والعلمية والإنسانية.

3) إن فكرة «المواطنة» التي قامت عليها تاريخياً الدولة العربية المعاصرة، ولاتزال، تتعرض حتى يومنا هذا لتجاذبات طاحنة، مما هو «فوق الوطني» كالحلم، مرة أخرى، بدولة خلافة أو التسرع في إقامة «دولة الوحدة العربية» قبل نضج مكوناتها الوطنية، ومما هو «دون الوطني» كالطائفة، والقبيلة والمحلة، وهي العوامل الأكثر خطراً في وقتنا المهددة لتماسك الكيانات الوطنية. وفي تنبيه أخير حذر الشيخ صباح الأحمد، أمير دولة الكويت، من العبث بـ«النسيج» الوطني. (وإن كنا نعتقد أن هذه النزعات التجزيئية تنتفض انتفاضة الموت ولا مستقبل لكيانات قزمة في عصر العولمة، ولكنها باهظة الثمن في حياة الأوطان... إلى أن تزول، وفي المنطقة العربية ثمة أطراف خارجية تشجعها).

وسواء كان الباحث مؤيداً للسياسات السعودية أم لا، فلابد من التقرير، بداية، أن إقامة دولة في منطقة عربية، كالجزيرة العربية، تعد عملاً تقدمياً من وجهة تاريخية، إذ كانت الحالة العامة «قبل قيام هذه الدولة بمنزلة (حرب الكل على الكل) حسب تعبير توماس هوبز في وصفه لحالة الطبيعة قبل قيام المجتمع المدني»- كما أورد الباحث السعودي تركي الحمد (مجلة المسـتقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص 30). وقد ظل هذا المنزع الوحدوي قوياً في أنحاء الجزيرة العربية المختلفة، حيث قاد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وحدة متميزة بالاختيار الحر بين أطرافها من اللافت أن شعب دولة الإمارات أصبح هو حارسها بعد غياب مؤسسها. ويشهد مجلس التعاون الخليجي اليوم «مخاض» اتحاده الذي تطمح إليه شعوبه، بينما تخوض وحدة اليمن معركة وجودها.

والجدير بالتأمل الفكري التاريخي أن دولة الملك عبدالعزيز هي «المشروع الثالث» لفكرة الدولة في الجزيرة العربية. فقد سبقتها تاريخياً الدولة السعودية الأولى والثانية، ما يدل على أن المشروعات الكبرى في حياة الأمم لا تنتهي بإخفاق محاولة أو محاولتين، ولابـد من الاستمرار، وهذا ما صمم عليه الملك عبدالعزيز، حيث يقرر د. ياسين سويد في بحثٍ قيّم أنه : «استطاع أن يحقق أول وحدة حقيقية بين قبائل العرب في نجد والإحساء وعسـير والحجاز، لم تكن قد عرفتها تلك البلاد، منذ انهيار دولة الأمويين»- من بحوث مؤتمر المملكة العربية السعودية في مئة عام، يناير 1999م، ص 4.

ويدرك المطّلعون خطواته في توحيد الجزيرة العربية، كما ذكرها المؤرخون، بما لا يسعه المجال هنا. ولكننا يجب أن نلتفت إلى معارك «تطوير» الدولة، أعني إصلاحات الملك عبدالعزيز التي لا يكتمل دوره التاريخي من دونها.

تستذكر د. عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ): «كان العرب من بوادي الجزيرة يعيشون بعقليتهم وأوضاعهم في حصون منيعة وراء الأسوار، يشهرون السلاح في وجه كل تطور... وكانت تلك هي المعركة الكبرى التي خاضها الملك عبدالعزيز على كثرة ما خاض قبلها من معارك... معركته الكبرى كانت هذه الثورة الإصلاحية، يواجه بها إخوانه وأهله وأصدقاءه... وما أشد النضال حين يكون ضد أخ أو صديق...» – أرض المعجـزات، دار المعارف، القاهرة، ص45).

وهذه «الحقيقة» التي توصلت اليها بنت الشاطئ -التي سمّاها الملك عبدالعزيز في حجّها الأول عام 1951 «أميرة الصحراء»- تنطبق أيضاً على مشروع الإصلاح والتطوير، الذي يطرحه اليوم بعناء غير قليل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وهو مشروع، إن نجح في إحداث نقلة ثابتة في تطور المجتمع السعودي، فسيعتبره التاريخ المؤسس الثاني في مسيرة الإصلاح للدولة بعد أبيه، وذلك بعد أن حافظ مَن سبقه من إخوانه الملوك على كيان الدولة، وعملوا من أجل تطويرها إلى أن بلغت الانطلاقة الإصلاحية الراهنة.

ومن اللافت أن بعض رجالات السعودية خافوا على كيان الدولة عند وفاة مؤسسها الملك عبدالعزيز، ثم اطمأنوا إلى ثباتها، كما يروي عن أبيه الدكتور محمد بن أحمد الرشيد في كتابه الشائق «مسيرتي مع الحياة».

ومن يقرأ تاريخ الملك عبدالعزيز، يلاحظ أن هذا القائد كان على اطلاع على مجريات الفكر والسياسة في المنطقة العربية والعالم، وأنه لم يقف عند حدود «الثقافة» المتوارثة في الجزيرة العربية.

ففي عام 1925م أصدر بياناً حكومياً رسمياً جاء فيه: «فمن رأى منكم منكراً في أمر دينه أو دنياه فليناصحنا به. فإن كان في الدين، فالمرجع إلى كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في أمر الدنيا فالعدل مبذول، إن شاء الله، للجميع على السواء».

وهذا «تمييز» لابد من التوقف أمامه بين شؤون الدين وأمور الدنيا منذ ذلك الوقت المبكر، في ضوء النزعة الإشكالية السائدة اليوم في الخلط والدمج بين الجانبين، بما يفتقر إلى التوازن الذي هو من جوهر الإسلام.

ومنذ وقت مبكر نراه يطرح على شعبه بوضوح «أن حب الوطن من الإيمان»- صحيفة «أم القرى» بتاريخ 25/7/1929، ومن المستغرب أن تظل فكرة «الوطن» غير مقبولة لدى البعض، حتى الآن.

وفي مطلع 1930 بعدما انتصر على فيصل الدويش في معركة «أم الرضمة» قال قولته المشهورة: «من اليوم سنحيا حياة جديدة»- بنت الشاطئ، مصدر سابق، ص 47.

وهذا يعني أن فكر الجديد والتجديد، الذي وصل الثقافة العربية في حينه، لم يكن الملك عبدالعزيز بعيداً أو غريباً عنه.

ومن هذا المنزع التجديدي، نراه يطور مملكته اجتماعياً وسياسـياً. فعلى الصعيد الاجتماعي، تصدى لأعقد مشكلة في التاريخ العربي، خصوصاً في جزيرة العرب، ألا وهي الصراع والنزاع بين البادية والحاضرة، بتشجيع البدو على السكن الثابت في «الهجر». وهو تطور له آثاره البالغة في حياة الإنسان تعلماً وتفكيراً وسلوكاً ودفاعاً عن الأرض، وتمسـكاً بالدولة.

أما على الصعيد السياسي، فإن تأسيسه لمجلس الشورى منذ عام 1927 كان خطوة متقدمة نحو «المشاركة» المجتمعية... «وكان هذا المجلس يتمتع بصلاحيات واسعة كمعالجة قضايا الميزانية العائدة للدولة وللبلديات، وتنفيذ المشاريع العمرانية والاقتصادية، وسن القوانين والأنظمة...».

ويحدثنا العقاد عن «مجلس الشورى» في نظام الملك عبدالعزيز، وكيف كان الملك يبتغيه، فيقول إنه لم يكن يريده مجلساً وهمياً، وإنما يريده مجلساً حقيقياً يجتمع فيه رجال حقيقيون يعملون جهدهم في تحري المصلحة العامة، وأنه كان يقول: «أريد حقائق... فإذا اجتمع أولئك... وأشكل عليَّ أمر من الأمور رجعت إليهم في حله، وعملت بمشورتهم، وتكون ذمتي بريئة من المسؤولية... «- ياسين سويد، مصدر سابق، ص 29 – 30».

وهذه صفات، لايزال، المواطنون العرب يطمحون إليها في برلماناتهم المنتخبة! ولكن رغم تفهّم الملك عبدالعزيز لضرورات التطوير، فإنه كان مدركاً لسنن الله في تدرج التطور. وذلك ما أدى إلى نجاحه... فقد كان يقول لكل داعية تجديد: «كل شيء يجيء في وقته».

وقد ظل هذا «الإرث الإصلاحي» للملك عبدالعزيز «ساري المفعول» في المنطقة إلى يومنا. وعندما سُئل الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عاهل البحرين، عن مدى ارتياح السعودية المجاورة لمشروعه الإصلاحي، كانت إجابته الحاسمة: نحن على خطى الملك «المصلح» عبدالعزيز...

* مفكر من البحرين

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top