في رهاننا العبثي على خطط مستقبلية تجعل بلدنا يواكب العصر، صرنا كمَنْ يردِّد مع الشاعر "ألا ليت الشباب يعود يوماً..."، فلا تلتقي مجموعة من الأشخاص أو تحاور أصدقاء ومهتمين في ديوانية من الديوانيات، إلَّا ويأخذك هؤلاء إلى أحلام مستحيلة سرعان ما يستبدلونها بذكريات عن الأيام الخوالي، وقتَ كانت الكويت "لؤلؤة الخليج" وكان الكويتيون يتطلَّعون بنشاط وطموح إلى أن يحققوا إنجازات على مستوى الوطن والأفراد.

Ad

ونحن، في شعورنا بالخيبة من القدرة على التقدم الفعلي لمجاراة الدول المتحضِّرة ومواكبة التطور العلمي، ننظر فلا نرى إلَّا مَنْ يتكلم عمَّا فعله لا عمَّا سيفعله، وعمَّا صنعه أجداده لا عمَّا ينوي ابتداعه، متناسياً أن العرب قالت "لا تقُل أصلي وفصلي..."، وأن سُنَّة الحياة هي التطور والسير إلى أمام.

لا يتطلب وجوب السعي نحو المستقبل بثبات وانفتاح، أن ننسى ماضينا أو ألَّا نذكر أسلافنا بالخير، بل على العكس من ذلك، ففي ماضينا ما يمكن أن نعتز به، وبين أجدادنا كثيرون شكَّلوا نماذج في العطاء والإقدام والإخلاص، لكن الأمم لا تعيش على الأمجاد، ولا على الحنين، ولا على البكاء على الأطلال، بل تتطلَّع إلى المستقبل وتعمل في الحاضر وتورِّث شعلة التقدم من جيل إلى جيل، حتى لا يقول اللاحقون إن السابقين تخاذلوا أو تفرَّقوا أو تكاسلوا، فلم يتركوا خلفهم إلا اليأس والتأخر عن السير في ركاب الحضارة والمتحضرين، وعن مجاراة العلم والحداثة، فغدت بلادنا في أسفل السلّم، مع أننا نمتلك القدرات المالية ولا تعوزنا سوى الجدية والنيّات الحسنة وحسن الأفعال.

للدول أسباب تقوم عليها، وعوامل تؤدي إلى انهيارها، ونحن لا نرسم صورة سوداوية للحال التي نعيشها، لكننا أذكى من أن نراها وردية، أو أن نصدِّق الوعود العرقوبية بإنجاز الخطط الخمسية وتحويل البلاد إلى مركز مالي، وكيف لنا أن نتفاءل بينما الحريات إلى تدهور، بفعل قوى سياسية متطرفة و"مشرِّعين" يعتقدون أن الإيمان بفرض الحجاب، والتقوى بإقفال المقاهي عند منتصف الليل، وفعل الخير في منع الاختلاط، والعفّة في إقفال البلد ومنعه من الانفتاح.

وللعلم، فإنها نفسها تلك القوى التي اعتبرت يوماً الراديو رجساً من عمل الشيطان، والتلفزيون سحراً، والطائرة يقودها الجان.

كيف لنا أن نتفاءل أيضاً، حين نرى أن تعارض المصالح بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، يؤدي إلى الجمود والتنازع وعدم الاستقرار وفقدان فرص التطوير والإنجاز، وأن خلافات الأسرة تنعكس على ثبات النظام؟

كيف لنا أن نتفاءل بعد انتشار الشعور باللامبالاة والقيم المنافية للإنتاج والبطالة المُقنَّعة، والاتكالية التي تنتظر أُعطيات دولة الرعاية ومُطالبات السياسات الشعبوية الهادفة إلى كسب الأصوات، بدل الحثِّ على العمل والمنافسة، وعلى العلم والمبادرة للنهوض مجدداً بالقطاعين العام والخاص؟

نفهم كيف أن دولاً يمتد تاريخها آلاف السنين مثل مصر والمكسيك والعراق، هرمت أو تعاني أعراض الشيخوخة، لكننا لن نفهم لماذا أصابتنا الأعراض نفسها، رغم أن عمر بلادنا بضع عشرات من السنين، ولا مبرر لضعف مناعتنا والاستعانة بعكّاز، أو الانحناء تحت ثقل الزمن والأعباء.

كنا دولة متقدمة فعلاً في كثير من المجالات، فأنشأنا معهد الأبحاث ومؤسسة الكويت للبحث العلمي وجامعة الكويت، وكانت لنا صولات وجولات في الفن والأدب، وحتى في السينما، وأسَّسنا أول معهد للفنون المسرحية والموسيقية في المنطقة، أما في الرياضة فبداياتنا كانت مشرفة، ويضيق المجال هنا لذكر الأسماء وباقي ميادين الريادة والإنجاز، فهل يمكن لمسؤول أن يبلغنا أين نحن من أولئك الرواد، وأي صرح علمي لايزال على مستواه، أو أي معهد حديث افتتحناه؟

لن نشارك في حفلة اللطم والبكاء، ولا في الاستعاضة عن المنجزات بالمذكّرات، دأبُنا أن نستفيد من ماضينا لنوقظ هممنا وهمم المسؤولين، وكل القوى الحية في البلاد، مدركين أن الإيمان بالمستقبل هو الشعلة التي تنير الحياة.