تفور منطقة الشرق الأوسط بإرهاصات الحرب، وتتوالى الأنباء عن احتمالاتها، وتتحسب الدول المنخرطة والمحيطة بمفاصل الصراع للأزمة المتوقعة؛ فتجتهد بالدراسات والتقديرات، وتعد خططاً لإدارة الأزمة، وتحسب التكاليف والعوائد، وتتوخى المخاطر والتهديدات، لكن دولة واحدة تقع في مرمى الخطر، وتتمركز في أكثر مواقعه رخاوة وقابلية للتورط، تقف هادئة غير مرتبكة، ومتابعة باهتمام لا يصل أبداً إلى حد الهلع، وأكثر أمناً من نظيراتها، وأقل استهدافاً بالضرر... إنها سلطنة عمان.
ضربت الأزمة المالية العالمية أقاليم عديدة في قارات العالم كلها، وألقت بظلال كثيفة على معظم دول المنطقة، فتغيرت الحسابات، وتقلصت الميزانيات، وزادت معدلات الدين العام مقارنة بالنواتج المحلية، وارتفعت الأسعار، وكسدت التجارة، وأحجم المستثمرون عن بعض مشروعاتهم، وأُعدت موازنات خاصة تتوخى استحقاقات الأزمة وأعباءها، لكن "السلطنة" كانت أقل تعرضاً للضرر، وأكثر قدرة على الحفاظ على وتيرة النمو والعمل والإنفاق.تغلي دول عربية وخليجية عدة باحتمالات الفتن الداخلية؛ بعضها طائفي ومذهبي، حيث يتقاتل أو يتصارع أتباع المذاهب الواحدة داخل الإسلام، أو على الأقل يتبادلون التضاغط والتلاسن ضمن أجواء محتقنة ومخنوقة بالإزاحة والإقصاء والاستعلاء. وتشهد دول أخرى نزاعات واستهدافاً بين أتباع دينين أو أكثر، فيما ينخرط عدد آخر من المجتمعات العربية في مشكلات عرقية، لكن "السلطنة" لا تعرف شيئاً من هذا ولا ذاك؛ رغم انطوائها على أتباع الطوائف والمذاهب المختلفة، واتساعها لاحتواء أتباع عشرات الأديان والأعراق.في فبراير من العام الماضي زرت سلطنة عمان، لأقدم دورة تدريبية لعشرات الإعلاميين العمانيين؛ حيث خرجت بانطباع راسخ عن قدر كبير من الثقة والرشد يجلل معظم الممارسات المجتمعية هناك، وبانطباع آخر عن حالة من الهدوء تهيمن على الحركة إلى الأمام؛ فلا تستحث الركض والهرولة، رغم أنها لا تسمح أبداً بالتوقف أو الارتداد.كان بعض الدول العربية يقفز في خطوات متسارعة آنذاك؛ فيشيد معماراً مبهراً، يستند إلى بنية متطورة تناظر أفضل ما أنتجته الحداثة في أعرق البلدان، والآخر يركض نحو التحديث السياسي، فيقطع الأميال في أيام معدودة على طريق المشاركة العامة في صنع السياسات، فيما يرزخ البعض تحت احتلال وتهديم منهجي، أو يلعق جراح طعنات تمزق داخلي وفتن، أو يتآكل إقليمه وتنتهك سيادته، أو يدخل في نفق مظلم مسدود بعدما غرق في الفساد وتدني كفاءة الإدارة.قياساً بالمهرولين كانت "السلطنة" تبدو متأخرة بعض الشيء، ومقارنة بالمتراجعين كانت في وضع أفضل وأكثر ثباتاً وتعزيزاً للأمل... لكن استدعاء الحكمة بآثر رجعي يشي اليوم بأن عُمان كانت على "السكة الصح"؛ فلم تُفرط في صعود غير محسوب يأخذها إلى حواف الخطر، ولم تتراخ عن اجتراح تقدم واجب لا تستقيم حياة البلدان من دون تحقيقه وتوخي أسبابه.في هذا الشهر، عدت إلى "السلطنة" لأقدم دورة تدريبية لأعضاء الغرفة العليا بالبرلمان (مجلس الدولة)؛ حيث أمكنني أن أرصد الفوارق وأن أقف على بعض ما تحقق من تقدم أو تراجع وإخفاق أو إنجاز، وحيث باتت الفرصة أفضل للاقتراب من الإجابة عن سؤال لم يطرح كثيراً في واقعنا العربي، خصوصاً الجزء الخليجي منه، إنه السؤال المتعلق بـ"أسرار السلطنة".يحفل واقعنا العربي بالكثير من الملكيات والجمهوريات والإمارات، لكنه لا يضم سوى "سلطنة" واحدة، ولذلك فإن بنية النظام وإدارة الشؤون العامة وكذلك الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في هذا البلد تبدو متفردة.لا تقدم "السلطنة" نموذجاً فريداً خال من الأخطاء والعيوب والنقائص، وهي لم تجترح تقدماً مذهلاً يقف العالم أمامه مشدوداً مسلوب الأبصار، لكنها تقدم بياناً عملياً لحكم يمتلك الرؤية والرشد ويتمتع بالولاء والثقة، ولحكومة تعرف معنى الإنجاز ضمن التوقيتات المنطقية والمحددة، وبرلمان يدرك حجم الحركة المطلوبة وحدودها، ولمجتمع يصحو كل يوم على جديد، لكنه لا يغير أبداً معالم ما كان لديه محفوراً ومنقوشاً وراسخاً.من فبراير 2009 إلى فبراير 2010، ظهرت صحيفة يومية جديدة في عُمان، وارتفع سقف الممارسات الصحافية بشكل محسوس، وترسخت مكانة المرأة في المجال العام، وزادت الرقعة التي تنشط فيها وتتفاعل، وتقريباً أصدر كل مثقف عماني أعرفه كتاباً جديداً، وبدا أن الدولة كلها بسلطاتها وموظفيها ومؤسساتها ومهنييها كانت منخرطة في ورش تدريب متتابعة.ما الأسرار التي نأت بـ"السلطنة" عن مخاطر الحروب والاستهداف المتبادل، وكيف استطاعت أن تقف آمنة غير مأخوذة بالهلع، فيما تُنصب الصواريخ حولها، وتتمركز الحشود، ويتبادل المتصارعون التهديدات بالنيران والغضب؟وكيف بقيت بعيدة عن التورط في مستنقع الفتن بروائحه العفنة، وآمنة من موجات غلاء متصاعد ومطرد، ومحافظة على علاقات متوازنة بالأطراف الفاعلة كافة في محيطها المفخخ بالأخطار وتصارع الإرادات، وقادرة على إقامة أكبر ورشة وطنية من نوعها لبناء قدرات إنسانها وتعزيز مهاراته، رغم أنها ليست مركزاً مالياً إقليمياً، ولا مقصداً سياحياً مبهراً، ولا مخزناً واسعاً للغاز أو النفط؟تبدو الإجابة عن هذه التساؤلات صعبة. لكن قد يسهم في إجلاء الأمور وإيضاحها مقاربة حذقة لأهم عنصر من عناصر البيئة العمانية... الإنسان العماني نفسه؛ حيث يبرهن دوماً على امتلاكه قدراً كبيراً من التحضر والصلابة، وانتمائه الراسخ لدينه وحضارته وأمته العربية والإسلامية، بشكل لم ينل أبداً من خصوصية فريدة يحرص عادة على تكريسها والإشارة إليها والاحتماء بها.سر أسرار "السلطنة" إنسانها... وسر هذا الأخير أنه لم يسأل أبداً عن هويته، لأنه يعرفها كما يعرف باطن يده، ولأنه كذلك، فقد أظهر أفضل الفضائل والسمات مع مواطنيه وأبناء حضارته والآخرين... التسامح والتفهم والمسؤولية والرضا.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
أسرار «السلطنة»
21-02-2010