الزميل الروائي طالب الرفاعي له رأي خاص في زمن الرواية، إذ يرى أنه يجب على الروائي تحديد زمن القص في الرواية لارتباطه بزمن الحكاية، ويصر على أهمية ذكر الزمن الروائي الذي يهمله عادة الكثير من الكتاب والأدباء العالميين، وأيضاً بعض الروائيين العرب، وبما أنني من هؤلاء الذين لا يهتمون بتأريخ زمن القص ولا بارتباطه بزمن الحكاية، ولا بحياة المؤلف، كحياة مجاورة لحكايته، لذا أحببت أن أوضح معنى هذا الانسلاخ أو الانفكاك من هذا الرسن الذي ليس هو ضرورة واجبة لكل عمل روائي، فكل رواية لها شرطها الخاص بها، ولا يجب حشرها تحت أي بند أو قيد أو شرط، فالفن الحقيقي لا يخضع لأي قانون جاهز، لأنه خارج مبدأ الجاهزية.

Ad

فالرواية هي التي تحدد شكلها، زمنها، مكانها، تقنيتها، فحين تتطلب رواية ما تحديد زمن القص فيها كأحد مساراتها الضرورية، كأن يكون الحدث تاريخياً أو الأحداث مرتبطة بتواريخ وأزمنة معينة تسير عليها الحكاية، هنا يكون ذكر الزمن وتحديده ضرورة من ضرورات بنية هذه الرواية.

لكن حين يكون القص، وهو الأمر الغالب في الروايات الحديثة، نوعاً من الغوص الوجداني في تحليل مشاهد أو تأملات أو منالوجات نفسية أو فكرية أو روحية أو رؤية لحياة أو تفاصيل معينة، فما فائدة الزمن في هذه اللقطات التأملية، التفكيكية العميقة، انها تكبير وتوسيع لمشاهد إنسانية، قد يكون زمنها لا يتجاوز الساعة تمر كأنها دهر، أو قد يكون دهراً ويطوى مثل ومضة، ذكر الزمن في مثل هذه الحالات هو الغالب في الأعمال الروائية، فمثلاً العمل العظيم «يوليسيس» للروائي الأيرلندي جيمس جويس، التي تعد أهم رواية في القرن العشرين، الزمن فيها لا يمكن تحديده، الحكاية تشعرها كأنها دهر، بينما هي في الواقع لم تتجاوز اليوم الواحد، ولم يحدد الروائي العظيم زمنها بالساعة وبالدقائق أو بحركة الشمس، وماذا فعل في كل وقت فيها.

وأغلب الأعمال العظيمة الخالدة لم تهتم بتحديد زمن قصها، لأنها ركزت وعيها في التغلغل بعمق الأحداث والغوص في اللقطات الإنسانية، وإبراز الأحاسيس فيها، وهذا هو المهم والأهم فيها، بغض النظر عن زمنها الذي لن يفيد ذكره بأي شيء سوى التسجيل المدرسي التعليمي.

الرواية وخاصة الحديثة منها معنية بتحليل الأحداث وتعميقها، وتأملها وتشريحها، وتركيز الضوء على مضمونها وجوهرها، فأحيانا تتداخل الأزمنة، والأمكنة، والشخصيات، وتتقاطع حسب قانون اللعبة التي اشترطت التقنية وجودها، فالنص بذاته هو الذي يحددها لا المؤلف، وأحيانا يكون دور الأزمنة بتاتا غير واضح وغير مفهوم، وكذلك ماهية ارتباطه بالأمكنة أو بالشخصيات، مثل الرواية العظيمة «الهاخاديتو» لميخل انخل استورياس، التي هي تهويمات عظيمة كأنها تميمات سحرية، فكيف يحدد زمن قصها؟

ومع هذا فلها زمنها الداخلي الذي يشعره القارئ الذكي المتمرس في القراءة الذي بوسعه أن يفهم هذا النوع من أزمنة القص التي توجد في معظم الروايات الماورائية والأسطورية، والتي لا ترتبط بأي زمن كان، وكأنها تعوم في سديم وهو المقصود منها، فما أهمية ذكر زمن القص فيها؟

إذا كان الهدف الروائي هو التركيز والإضاءة على انفعالات، وتجربة حياتية معينة، أو تأملات روحية، أو فكرية، أو تحليل لأحداث بذاتها، فماذا يهم القارئ من زمنها مادام أنها نقل لتجربة إنسانية موجودة في أي زمان ومكان كان.

ومع هذا يبقى لكل كاتب منا قناعاته وتجاربه الخاصة به التي لا تورث لغيره، فالتوريث يقضي على الابتكار والإبداع، فالفن هو المغامرة والمقامرة بكل الثوابت.