حرب الفتاوى بين حركتي حماس و الجهاد
نشبت منذ أيامٍ عدة حربُ «الفتاوى» بين حركة «حماس»، الحاكمة لقطاع غزة، وحليفتها حركة «الجهاد الإسلامي» بشأن شرعية الحوار والتفاوض مع إسرائيل وأميركا، ففي حين ذهب «الحماسيون» إلى جواز التفاوض مع إسرائيل وأميركا رفَض «الجهاديون» ذلك واعتبروه حراماً. جاء ذلك في معرض تصريحات مفتي «حماس» وأحد قادتها ونائبها في المجلس التشريعي - يونس الأسطل - لدى سؤاله عما إذا كان مستعداً لإجراء مفاوضات مع إسرائيل؟ فقال: «ما الذي يمنع من محاورة إسرائيل؟ الإشكال فيمَن يحاور وفي أوراق الضغط التي يمتلكها، السلطة الفلسطينية تخلت عن أوراق الضغط، ومحاوروها ليست عندهم حصانة إيمانية ولا حصانة وطنية!». وبعد يومين من هذا التصريح «الفتوى» رد عليه مفتي «الجهاد الإسلامي» الشيخ نافذ عزام - القيادي بالحركة - بقوله: «لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف، وأياً كانت العوامل والأسباب، إجراء أي شكل من أشكال الحوار مع إسرائيل، بوصفها كياناً قام على اغتصاب أرضنا وحقوقنا المشروعة»، كما رفض عزام، إجراء أي حوار مع الإدارة الأميركية إلا إذا توقفت عن دعمها الأعمى لإسرائيل وتعاملت بصورة موضوعية مع قضايا الشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فحرب الفتاوى الدينية هذه بين «حماس» و«الجهاد» تذكرنا بحرب الفتاوى بين «فتح» و«حماس» بعد انقلابها واستيلائها على غزة بشأن «صلاة العراء» فقد وظفت «حماس» سلاح الفتوى ضد خصمها «فتح» إذ أفتى العلماء والمشايخ المتعاطفون مع «حماس»، ومعظمهم من «الإخوان المسلمين» وعلى رأس هؤلاء، «رابطة علماء فلسطين» بعدم جواز إقامة صلاة الجمعة في العراء، وذكروا مستنداتهم الشرعية، تأييداً لـ«حماس»، بينما أفتى العلماء في الضفة الغربية والمؤيدون لـ«فتح» بجواز الصلاة، وقال قاضي القضاة في فلسطين: تجوز الصلاة خارج المساجد بناءً على «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»، ودخل عدد من علماء الأزهر والسعودية على الخط، فأيدوا فتوى الجواز، وأكدوا عدم شرعية حظر الصلاة في الساحات العامة، لقد تناست «حماس» أنها على امتداد 15 عاماً، وهي في المعارضة، كانت تستخدم الساحات العامة لصلوات الجمعة في أهداف سياسية ضد حكومة «فتح»، فلما وصلت إلى السلطة وانفردت بالحكم، انقلب موقفها ووظفت الفتاوى في صراعها السياسي ضد «فتح»، وها هي اليوم تذوق من نفس الكأس على يد حليفتها «الجهاد الإسلامي».تأتي هاتان الفتويان المتضاربتان بين حليفي النضال والرؤية الإيديولوجية المشتركة في حتمية المقاومة المسلحة، لتكشفا عن حجم الخلاف السياسي بينهما في أمور مفصلية عديدة، بدءاً من رفض حركة «الجهاد» المشاركة في أي انتخابات تشريعية بحجة أنها محكومة بسقف «أوسلو» المرفوض جملة وتفصيلاً من قبلها، ولذلك قاطعت «الجهاد» الانتخابات التشريعية 2006 بينما شاركت «حماس»، وفازت فيها بالأغلبية، وكان هذا مصدر أول خلاف بينهما، إذ انتقدت «الجهاد»، حركة «حماس» لدخولها الانتخابات، كما رفضت «الجهاد» بشكل قاطع المشاركة في أي حكومة فلسطينية بما في ذلك حكومة «حماس» في غزة، لأنها حكومات في ظل الاحتلال، ثم اتسع الخلاف عندما قبلت «حماس» التهدئة مع إسرائيل ومنعت «الجهاد» من إطلاق الصواريخ، واعتقلت عناصرها وأهانتهم وأجبرتهم على توقيع تعهدات بعدم إطلاق الصواريخ، وردت «الجهاد» بأن المقاومة غير خاضعة للمساومة وأن لها الحق في الرد بينما كانت «حماس» تقول: إن اطلاق الصواريخ يحدث في الوقت الخطأ متهمة «الجهاد» بترويج المذهب الشيعي، مستندة إلى تشيع بعض عناصر «الجهاد» وفعلاً، نشرت صوراً لرمضان شلح - أمين عام «الجهاد» – وهو يزور قبر الخميني، لقد ظلت هذه الخلافات «تحت الطاولة»، وكان الحليفان يتظاهران بأنه لا خلاف بينهما وأنهما يمثلان تياراً إسلامياً متحمساً بالمقاومة المسلحة إلى أن حصل تطور جديد، وهو تصريح خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» لصحيفة «نيويورك تايمز» بأنه مع «قبول دولة فلسطينية بحدود 97 على أساس هدنة طويلة، متضمناً القدس الشرقية وفك المستوطنات وعودة اللاجئين»، وأن «حماس» تقوم بعملية مراجعة لعمليات اطلاق الصواريخ باعتبار أن اطلاقها هو وسيلة وليس هدفاً، وأن الحركة أمرت بعدم إطلاق الصواريخ، وهي قادرة على ضبط ذلك سواء بالنسبة لأفرادها أو بالنسبة للجماعات الأخرى - يقصد «الجهاد» - كان هذا التصريح ذروة الخلاف والفراق، فأصدرت «الجهاد» بياناً هاجمت فيه «حماس»، وقالت: «إن المفارقة أن (فتح) أعلنت الموافقة على دولة في الضفة وغزة بعد عشرين سنة من قيامها، أي في مؤتمرها السنوي بالجزائر، أكتوبر 1988، كذلك أعلنت (حماس) الموافقة على دولة بحدود 97، ومدت اليد للتفاوض مع أميركا، بعد 20 سنة من انطلاقتها عام 1987، فكأنها تتبع سنن (فتح) شبراً بشبر وذراعاً بذراع». وهاجم نائب زعيم «الجهاد» زياد النخالة، قبول مشعل بدولة على حدود 97 واعتبرها خطوة خطيرة فيها تضييع لفلسطين التاريخية، كما اعتبر «المبادرة العربية» أخطر من «وعد بلفور»، لأن مَن يملك أعطى من لا يستحق!دعونا نتساءل الآن: لماذا تغيرت «حماس» وأصبحت أكثر واقعية وعقلانية؟ لماذا تقبل «حماس» بدولة فلسطينية على حدود 97 في تجاوز لميثاق نشأتها القاضي بضرورة الجهاد حتى محو إسرائيل من الوجود؟ أتصور أن ذلك يرجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية هي:1- أن منطق السلطة الحاكم غير منطق المعارضة، و«حماس» اليوم بعد أن أصبحت في السلطة ومارست الحكم، غير «حماس» التي كانت في المعارضة، أصبحت «حماس» بعد وصولها إلى السلطة، والتي هي الهدف الأول والأخير لكل التنظيمات الأصولية المعارضة للسلطات الشرعية في دورها، ذات مسؤولية كبيرة عن شعبها، وأصبحت لها نظرة أوسع وعلاقات ومصالح مع دول تستطيع التأثير على قراراتها، بمعنى أن «حماس» الحاكمة لا تستطيع أن تتخذ قراراً بمعزل عن توازنات داخلية وخارجية بخلاف حركة «الجهاد» الإسلامي التي هي خارج السلطة. 2- أن شعبية «حماس» وصلت إلى الحضيض عقب عدم تجديد الهدنة والمسارعة إلى استفزاز إسرائيل بإطلاق الصواريخ، الأمر الذي جر الكوارث والدمار على سكان غزة، غير آلاف الضحايا والجرحى ومن غير تحقيق أي هدف نضالي غير المزيد من الحصار وتدمير الأنفاق وإحكام إغلاق المنافذ التي كان يتسرب منها السلاح إلى غزة، فوجدت «حماس» نفسها في أزمة؛ فلا هي قادرة على تعويض سلاحها الذي دُمر، ولا هي قادرة على رفع الحصار وتأمين احتياجات الشعب، فضلاً عن إعادة إعمار غزة، لذلك أرادت «حماس» أن تحافظ على البقية الباقية من رصيدها الشعبي، خصوصاً أن هناك انتخابات قادمة، فلا بد من الملاينة والمرونة السياسية، ولذلك قال مفتيها: «ليست المشكلة في الحوار، ولكن المشكلة فيمَن يحاور؟»، بمعنى أن «حماس» تريد أن تكون محتكرة بحجة أن عندها من الحصانة الدينية والوطنية ما ليس عند السلطة الفلسطينية، وهذا منهج إقصائي ووصائي، وهو امتداد للفكر الثوري الذي كان أصحابه يخونون خصومهم السياسيين ويتهمونهم بالعمالة وخدمة المخططات الخارجية.3- هناك متغيرات سياسية إيجابية اليوم في المنطقة، وأوباما مدّ يده إلى كل من سورية وإيران، الراعيتين الرسميتين لـ«حماس»، وهما بصدد قبول اليد الممدودة عبر تسوية أو صفقة، وحتى لا تسقط «حماس» من حسابات هذه الصفقة كان لا بد من المبادرة لإيصال رسالة إيجابية من قبل «حماس» إلى الراعي الأميركي بأنها مع الحوار ومع السلام، ولذلك يقول مشعل في تصريحاته للصحيفة الأميركية: «أتعهد للإدارة الأميركية والمجتمع الدولي بأن نكون جزءاً من الحل بشكل نهائي». الآن ما دلالات توظيف سلاح الفتاوى في كسب التأييد الشرعي للتوجهات السياسية لكل من «حماس» و«الجهاد»؟! إن أبرز دلالة سياسية لحرب الفتاوى، هو أن المواقف السياسية هي التي تنتج الفتوى الشرعية الداعمة لها لا العكس، بمعنى آخر إن العلماء والمشايخ يصدرون فتاواهم بحسب انتماءاتهم السياسية والإيديولوجية وبحسب مصالحهم الآنية، وهكذا كانوا قديماً، وهم كذلك حاضراً، وسيظل الأمر كذلك مستقبلاً... ومن هنا تتضارب الفتاوى، وقِسْ على ذلك فتاوى «الجهاد» في العراق وفلسطين وأفغانستان، فالأصل في كل ذلك هو الموقف السياسي للفقيه المفتي، ودع عنك المستندات الشرعية، فالكل عنده مستندات حتى فقهاء الإرهاب الذين برروا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وأطلقوا على الانتحاريين اسم «العظماء التسعة عشر».* كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء