عندما التقى خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز بالرئيس السوري بشار الأسد في الرياض لأول مرة بعد قمة الكويت، قال العاهل السعودي للرئيس السوري ما حرفيته: «لا نريد عراقاً جديداً في لبنان». تسرّب هذا القول في حينه لكنه لم يحمل صفة التأكيد، غير أن مصادر لبنانية عليا أكدت صدوره بعد انتهاء الانتخابات، عندما تحدثت عن الخلفيات والأسرار وراء نجاح الموالاة بالحفاظ على أكثريتها النيابية السابقة.
لقد حرص الرئيس بشار على تنفيذ ما اتُفقَ عليه في هذا اللقاء الثنائي معتبراً أن قيام سورية بدورها في منع «عراق آخر» في لبنان يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين مبنية على الثقة وحسن النوايا، لكن المشكلة بالنسبة للرئيس السوري كانت في عملية إخراج «سيناريو» وصول الطرفين المتنازعين (8 و14 آذار) إلى التعادل في اسوأ الاحتمالات، أو حصول المعارضة على اكثرية صغيرة لا تتعدى المقعد الواحد أو المقعدين النيابيين على أبعد تقدير. وهذا يعني أن ما حصل على أرض الواقع كان مفاجأة لدمشق التي التزمت بنصوص السيناريو كما وضع في الرياض، خلال الزيارات المكوكية السرية والعلنية التي قام بها فريق سعودي-سوري مشترك لوضع تفاصيل الخطوط العريضة التي تم الاتفاق عليها بين العاهل والرئيس. وقد حرصت العاصمتان على وضع ستار كثيف من الكتمان على أسماء هذا الوفد حيث بقيت مجهولة عن بقية الأجهزة الأخرى من البلدين، وذلك لضمان حرية الحركة، لأن أي «تسريب» عن هدف هذه اللجنة من شأنه أن يخلق متاعب قد تؤدي إلى نسف الاتفاق، أو على الأقل عرقلته وبصورة خاصة بالنسبة لسورية وعلاقاتها مع المعارضة اللبنانية. هذا يعني أن الاتفاق تستفيد منه الرياض أكثر مما تستفيد منه دمشق. فماذا كان دور دمشق في هذا السيناريو؟حسب التفاهم السوري-السعودي، فإن على دمشق أن تلعب دوراً كبيراً جداً في منع الوضع الأمني من الانفجار قبل الانتخابات وخلالها وبعدها إذا لزم الأمر، وتعهدت دمشق بذلك ونفّذت تعهداتها بالكامل عبر استدعاء الذين لهم الكلمة الفصل في الحالة الأمنية في المعارضة، بينما قامت السعودية بدورها المكمل عبر سعد الحريري ووليد جنبلاط اللذين دعيا إلى الرياض واجتمعا بخادم الحرمين قبل عشرة أيام من بدء الانتخابات. لكن الدور السوري كان أكثر صعوبة وحساسية من الدور السعودي في تحقيق معادلة المناصفة أو التعادل أو حتى الربح القليل بمقعد أو مقعدين لمصلحة المعارضة وهذا يدلّ على أن حسابات دمشق بالنسبة إلى نتائج الانتخابات كانت خاطئة. فهي كانت تعتبر أن فوز المعارضة القليل أو تعادلها مع الموالاة مضمون، وأن الوقوف على الحياد، كما طلبت السعودية، لن يؤثر على فوز المعارضة بالأكثرية الضئيلة، وكان هذا هو المطلب السوري. لكن الرياح جرت عكس ذلك، فدمشق لم تكن على اطلاع كامل على «الجيش» الذي هيأته الموالاة وقوامه: المال وحسن التنظيم وتخويف الفريق المترجرج من المسيحيين والسنّة من أن التعادل في النتيجة هو فوز للمعارضة. فالمطلوب هو هزيمة ساحقة ماحقة، وللوصول إلى هذا الهدف طلب صانعو قرار الموالاة (الحريري- حنبلاط- جعجع) من الرياض التركيز على حياد سورية، بينما يتولون مهمة تحطيم أسطورة ميشال عون مسيحياً لكونه الطرف الأضعف في التحالف المعارض. وعندما يحصل ذلك يصبح «حزب الله» وحيداً في ساحة المعارضة حتى من «ورقة التين» المسيحية. تلك كانت خطة الموالاة التي- على ما يبدو- قد غابت عن حسابات دمشق التي كانت تُعرف إلى الأمس بدقة حساباتها وبمعرفة بواطن الأمور وظواهرها، لذلك سارت إلى نهاية الشوط في التزامها بسياسة الحياد في الانتخابات.إن دمشق لم تكن الوحيدة التي أخطأت في حساباتها، فالموالاة ارتكبت ذات الخطأ عندما اقتنعت أن في مقدورها الفوز على ميشال عون وجناحه المسيحي، وجاءت النتيجة عكس ذلك بفوز عون بقلب المارونية السياسية والاجتماعية في كسروان وفي بعبدا وفي المتن الشمالي، بل إن هذا الفوز تمدّد إلى جناح مهمّ من المارونية السياسية في الشمال (زغرتا) وفي الجنوب (جزين)، وهكذا ازدادت المعادلة اللبنانية تعقيداً مما لا يبشر بالخير للبنان في المدى القصير والمتوسط والطويل، بل إنه وضع البلاد والعباد أمام مأزق له أول وليس له آخر.إن دمشق نجحت في عدم كشف أوراق لعبتها التعادلية أمام المعارضة حتى لا تـُفَسّر بأنها تتخلى أو «تبيع» حلفاءها، وما يمكن أن يتبع ذلك من تحليلات وتفسيرات تنسف ما تبقى لدمشق من نفوذ في لبنان، إنها لعبة خطرة جداً ولذلك وجب معالجتها بكثير من السرية والكتمان الشديدين، وسورية هي سيدة السرية والكتمان في المنطقة كلها، لذلك وحرصاً منها على عدم الوقوع في أخطاء تؤدي إلى كشف دورها أمام حلفائها المعارضين اللبنانيين، شكّلت دمشق «لجنة خماسية» برئاسة بشار الأسد الذي كلفها بمتابعة ملف الانتخابات اللبنانية واتخاذ القرارات التنفيذية بمعزل عن أي مسؤول سوري عسكري أو مدني.طلبت المعارضة من دمشق وبإلحاح شديد أن «تسهّل» أمور الناخبين اللبنانيين الموجودين في سورية، وعددهم يبلغ الآلاف وأسماؤهم واردة في قوائم الانتخابات خاصة في منطقتي زحلة والبقاع الغربي وفي بيروت الغربية، وفي الترحال من بيروت إلى دمشق، كانت المعارضة تسمع النغمة ذاتها: «سنفعل كل ما باستطاعتنا لمساعدتكم انتخابياً ضمن إطار عدم التدخل المباشر في هذه الانتخابات». وكان الذين نقلوا هذه التأكيدات للمعارضة صادقين في قولهم، لأنهم كما ثبت فيما بعد، كانوا خارج تعليمات لعبة التفاهم السوري-السعودي، ولم يعلم أحد بوجود «اللجنة الخماسية» السورية التي بقيت في الظل إلى فجر يوم الانتخاب، حيث ظهرت إلى العلن وأصدرت تعليماتها باسم الرئيس بشار الأسد بعدم السماح لأكثرية الناخبين اللبنانيين الموجودين في سورية، أو أي متجنس سوري، بممارسة حقه في الاقتراع لأن ذلك من شأنه إدخال سورية في متاهات التدخل بالشأن اللبناني مجدداً، وهي مخالفة لتعهدات الرئيس بشار إقليمياً (السعودية) ودولياً (فرنسا والولايات المتحدة).وهذا ما جرى يوم الانتخاب، فبينما كانت حسابات المعارضة، خصوصا في زحلة والبقاع الغربي، تتوقع مجيء ما لا يقل عن عشرة آلاف ناخب إلى المنطقتين، لم يصل من هؤلاء أكثر من (400) ناخب نصفهم أعطى أصواته للموالاة، وهكذا ضاعت زحلة التي كانت تتحدث بثقة عن نجاح لائحة زعيمها التقليدي إلياس سكاف بكاملها، فسقطت بالكامل. وهذا ما حصل أيضاً في البقاع الغربي، لكن السبب ليس فقط دمشق واتفاقها مع الرياض، بل هناك أسباب جوهرية أخرى لعل أهمها عامل المال الذي كان متوقعاً ولكن ليس بالشكل الذي جرى يوم الانتخاب. وقد وصلت إلى بعض الدوائر الرسمية اللبنانية عدة تقارير تتحدث عن ارتفاع سعر الصوت الواحد إلى خمسة آلاف دولار في زحلة، وأن صفقات البيع والشراء تمت قبل منتصف ليل السبت-الأحد أي يوم الانتخاب، بالإضافة إلى عوامل لوجيستية لعبت وزارة الداخلية دوراً كبيراً فيها ضمن خطة ما يسمى بـ«التزوير الشرعي» بواسطة ازدواجية لوائح الشطب واعتماد اللائحة الأخيرة الموجودة لدى رئيس قلم الانتخاب والتي اختفى منها الآلاف من أسماء الناخبين المحسوبين على المعارضة.سؤال من الضروري طرحه بصوت عالٍ: هل يؤدي نجاح التفاهم السعودي-السوري في الانتخابات اللبنانية إلى مزيد من التفاهم على أمور إقليمية (إيران) وعربية (فلسطين) ودولية (الولايات المتحدة)؟هناك من يرد فيقول إن التفاهم السوري-السعودي كان مرحلياً يشمل فقط الانتخابات اللبنانية، وفي حال نجاحه قد ينطلق إلى النواحي الأخرى، غير أن الثابت أن عنصر التفاهم بين الدولتين موجود منذ قمة الكويت وقد تمّ تعزيزه بتنفيذ بنوده على الأرض في لبنان، غير أن التفاهم في أمور أخرى لم يصل بعد إلى النتيجة المرجوة. والتفاهم لا يعني الاتفاق، ففي لبنان تحول التفاهم إلى اتفاق، والاتفاق إلى تنفيذ. أما في غير لبنان فإن التفاهم على ضرورة الوصول إلى اتفاق موجود، لكن الاتفاق لم يجر التفاهم عليه بعد، وقد يتحول إلى اللاتفاهم لدى مناقشة الخطوط العريضة قبل الوصول إلى التفاصيل المليئة بألف شيطان وشيطان. * كاتب لبناني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
دور سورية في انتخابات لبنان
17-06-2009