«ما بيّن بعينك على كثر ما جاك»

Ad

هذه الخيبة ليست عادة البداية، وإنما النهاية

فالبداية تكون قد بدأت قبل ذلك الوقت بكثير...

بدأت عندما كنا نحرث العمر ونبذر حنطة الرجاء ونسقيها بماء الأماني ودموع الصبر،

ونزيّن القلوب بيوتا محمية نكيّفها بيئة صالحة لنمو الرجاء

ونجعل من أيام الانتظار مواسم لا تخون اللون الأخضر،

وننذر السنين الطوال لرعاية تلك النبتة،

نمرض إذا ما اعترى لون أغصانها الشحوب

ونعصر الشرايين إذا ما اشتكى جذرها الجفاف

ونوعد لحظات الشدة بزغاريد الفرج والتي ستأتي حتما

ونوعد سلالنا الفارغة بالامتلاء حد العجز بجمع ما سيفيض،

ونبشّر العوز بالاكتفاء والبذل مما سيزيد للفقراء وعابري السبيل وحتى لوحوش القفار

نكون على يقين بأننا سنفعل ذلك وأكثر عندما يحين موسم الحصاد، ونجني الثمر الكثير من شجرة الرجاء التي زرعنا بذرتها منذ أن كان الصبر وليدا قبل أن يشيخ ويغطي الشيب كل خصلة منه.

نكون واثقين بأن تعبنا لن يضيع عبثا،

وأن جهدنا لن يذهب سدى،

وأن دعواتنا اللحوحة ستجد عند الله أذنا صاغية،

وأن دموعنا الحارقة ستلامس يده الكريمة ليمسحها بمنديل رحمته،

ثم بعد ذلك كله، وعند وقت الحصاد، نكتشف أننا زرعنا بذرة الرجاء، ولم نحصد سوى حنظل الخيبة!

خذلان يلتهمنا فجأة

ويطوّح بنا في غياهب الإحباط،

أعطينا من نحب زهرة العمر لنحصد شوك الجحود.

هكذا ينتهي كثير من قصص العطاء،

ليس غريبا أن هناك من الناس من لا يعي قيمة ما يعطى له،

وليس حدثا نادرا أن نجد من الناس من يجحد العطاء،

وليست أيضا صورة من صور الخيال أن نجد من يلهث في صحراء الحياة، لا يجد ما يقيه هجيرها، أو ما يسد رمق عواطفه فيها، ثم يجد شجرة وارفة الظلال، كثيرة الثمر، يتفيأ ظلها بعض الوقت، ويأكل من ثمرها إلى أن تعود له العافية، بعد أن شارف على الهلاك، وتسري في عروقه لذة الراحة بعد أن أضناه التعب، ثم يقوم بقص جذع تلك الشجرة الوحيدة ليبني منه ومن أغصانها بيتا!

فبدل أن يرعاها لتستمر بعطائها حكم عليها وعلى نفسه بالموت!

هذا الغباء ليس شاذا في السلوك الإنساني، فقصة تلك الدجاجة التي تبيض بيضة ذهبية كل يوم، لم تكن رغم قدمها عبرة لكثير من بني البشر.

كل هذه القصص تبيّن خذلان من أعطى بمن أخذ ولا شك،

إلا إن «لإشكالية العطاء» وجه آخر،

وجه غائب...

في موضوع العطاء نحن غالبا لا نسأل المعطي كيف أعطى، ومتى، وهذان السؤالان

هما مفتاح القضية كلها،

عندما يهطل المطر على الصحراء مدرارا في غير موسمه، فلن تكتسي الأرض بالربيع، وذلك بسبب خطأ توقيت المطر، وليس جحود الأرض،

ولو أن وردة سُقيت بالماء فوق حاجتها لماتت وتوقف نبض عطرها، فالذنب ذنب الساقي وليس ذنب الوردة،

قبل أن نحكم بالجحود على من أخذ، لنتأكد من كيفية عطاء من أعطى وتوقيته.