همجية التيار المتشدد

نشر في 10-05-2010
آخر تحديث 10-05-2010 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري   ما كنت أتصور أن يبلغ الفجور في الخصومة، والغلو في كراهية الآخر والضيق برأيه، أن يقوم شبان بالتجمهر أمام بيت الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي، مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة، محاولين انتهاك حرمة بيته والاختلاط بأهله كون الشيخ يرى إباحة الاختلاط، هذا ما تناقلته الصحف السعودية والمواقع الإلكترونية المختلفة، هذا السلوك الهمجي المشين غير متصور في أي مجتمع إسلامي فضلاً عن حصوله في مجتمع متدين كالمجتمع السعودي المعروف بحرصه على مظاهر الدين وفرائضه وآدابه.

إنه تصرف بغيض ومسيء ومستنكر من قبل أطياف وطبقات المجتمع كافة الفكرية والدينية والاجتماعية، وقد أحسنت الشرطة السعودية، إذ سارعت وداهمت المكان وألقت القبض على 4 من هؤلاء الشباب للتحقيق معهم، وأرجو أن ينالوا عقابهم الرادع، فإن ما فعلوه ليس أمراً هيناً بل جريمة آثمة، لقد أعمتهم الكراهية بعدما فشلوا في مقارعة الحجة بالحجة، وعجزوا عن المواجهة الفكرية فلجؤوا إلى إرهاب الرجل وأهله وترهيبه بالتجمهر أمام بيته للإساءة إليه وإسكاته والضغط عليه للتراجع عن آرائه في إباحة الاختلاط، ولكن هيهات!

فمن أنطق الله لسانه بالحق الذي حاول التيار المتشدد سنين طويلة طمسه وإخفاءه لا يمكن أن ترهبه تلك السلوكيات الشائنة، لقد كانت العناية الإلهية ترعى هذا الشيخ الأعزل وتحفظ أهله، فرد الله كيد هؤلاء ومكرهم إلى نحورهم مصداقاً لقوله تعالى "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله".

على مر التاريخ الإسلامي، البيوت لها حرمات، والقرآن الكريم واضح وصريح في تأكيدها في آيات محكمات، ولم يجرؤ مسلم أو حتى أن تحدثه نفسه بانتهاك حرمة بيت غيره- مسلما أو غير مسلم- لكن هؤلاء فعلوا وذهبوا للفعل المنكر مع سبق الإصرار والترصد، فلا ينبغي التساهل معهم، بل ينبغي تغليظ العقوبة عليهم، فهم لم يحاولوا الشروع في انتهاك حرمة بيت مسلم فحسب، بل انتهكوا مبدأ دينياً وأخلاقياً راسخاً على امتداد تاريخ البشرية، ما فعله هؤلاء الشباب المتهور أمر مؤلم للنفس، ولكن ما هو أكثر إيلاماً أن يتطوع أستاذ جامعي هو عضو في هيئة التدريس لجامعة أم القرى للدفاع عن هذا الفعل الآثم بل تبريره.

هذا الأستاذ الأكاديمي الذي يشغل موقعاً مسؤولاً عن تخريج القضاة، والذي يعد مربياً للأجيال، علّل هذا السلوك الشائن لهؤلاء الشباب بتعليل عجيب وغريب، هل تعلمون ماذا قال؟! لقد قال هذه المربي الأكاديمي مبرراً تهجم الشبان على بيت الشيخ الغامدي: "إذا كان الشباب يريدون زيارة الشيخ والاختلاط بأهله كما أفتى بجواز ذلك (لاحظوا المغالطة! نعم أفتى الشيخ بجواز الاختلاط، لكنه لم يدع الناس للاختلاط بأهله) مبيحاً قيام المرأة بخدمة الرجال وتفلية الشعر، فهم أتو يريدون مباحاً، فهو من حقه أن يمنعهم، لكن ليس من حقه أن يستدعي الأمن". ثم يضيف مربي الأجيال إلى سلسلة مغالطاته مغالطة أعظم فيقول: "إن الشيخ في مثل هذه الحالة مثل الذي دعا الناس لأن يأتوا للأكل في بيته، فهو أمام خيارين: إما أن يرحب بهم أو يمنعهم، وليس من حقه أن يستدعي الأمن"، عجباً لهذا المنطق السقيم!

يستنكر مربي الأجيال على الشيخ الغامدي لجوءه إلى استدعاء الشرطة لحماية بيته من غزو أوغاد يريدون اقتحامه! وكأن هؤلاء الشباب أتوا في زيارة ودية للشيخ، ولم يقدموا للتجمهر أمام بيته للإساءة إلى الشيخ وأهله! هل هذا منطق أستاذ جامعي مؤتمن على مستقبل الأجيال من طلاب العلم؟! ثم ما علاقة إباحة الاختلاط بإباحة الأكل؟ وما الرابط المنطقي بينهما؟!

هل يغالط هذا الأستاذ نفسه أم يستغفل الناس؟ وكيف يستقيم هذا القياس الفاسد؟ إذا دعوت الناس للأكل في بيتي فهم يأتون بدعوة مسبقة ويدخلون بإذن مني، فما علاقة هذا باقتحام بيتي من قبل رعاع لم آذن لهم؟! وإذا كان الشيخ الغامدي قد أباح الاختلاط في العلم والعمل وفق ضوابط شرعية محددة، فهل دعا الناس للاختلاط بأهل بيته؟ هل يعقل أن يكون هذا تفكير أستاذ جامعي؟! إذا سمحنا بهذا المنطق غير السوي فكل بيوت المجيزين للاختلاط على امتداد العالم الإسلامي معرضة لغارات هؤلاء الأوباش بحجة أنهم أباحوا الاختلاط، وقد جاؤوا للاختلاط بنسائهم وبناتهم؟! هل هذا منطق؟!

لقد أحسن الكاتب السعودي علي سعد الموسى حين عرى هذا المنطق المعوج بقوله: "إذا كان هذا الأستاذ المسؤول عن تخريج القضاة، سيأخذ تصريحه معه إلى قاعات الدرس ليصبح منهجاً، فما الذي بقي للناس من حقوق يأخذونها إلى القضاء إذا كان أساتذة القضاة أو أحدهم لا يرى في اقتحام بيوت الناس ومحارمهم جريمة تستحق العقاب والمساءلة، وإذا كانت آداب هذا الدين العظيم لا تسمح لمسلم أن يقتحم بيت كافر يؤمن بإباحة المحرمات، فهل يفتينا هذا الأستاذ أن نقتحم كل بيوت المخالفين لرؤيته؟!". ومع أن هناك اليوم في المجتمع السعودي، العديد من العلماء والمشايخ من المدرسة السلفية، وهي المدرسة النصية في الفكر السُني والتي تشهد سلسلة من المراجعات النقدية من داخلها، منهم الشيخ أحمد بن الشيخ عبدالعزيز بن باز الذي أفتى بقيادة المرأة السعودية للسيارة واعتبرها حقاً من حقوقها الأصلية، وهناك الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن الحارثي، القاضي بديوان المظالم والذي قال: "إن كلمة الاختلاط بين الذكور والإناث هي كلمة حديثة وذات مفهوم متسع، ودعا إلى عدم التخوف من التساهل في (الاختلاط الجائز) باعتبار أن عادة المسلمين جارية على الاجتماع العام بين النساء والرجال"... وقال: "إن اعتبار أن الاختلاط محرم أشد التحريم فهذا من القول على الله بلا علم".

وهناك وزير العدل د. محمد العيسى وأيضاً الشيخ عيسى الغيث وغيرهم من العلماء الذين يرون إباحة الاختلاط وفق ضوابط شرعية محددة، إلا أن الشيخ الغامدي هو المستهدف الأكبر للهجوم والتجريح من قبل أتباع التيار المتشدد الذي يحرِّم الاختلاط تحريماً مطلقاً، بل أفتى بعض مشايخهم كالشيخ عبدالرحمن البراك: أن المبيح للاختلاط كافر مرتد يستتاب، فإن أصر على رأيه يقتل، لا شك أن الشيخ الغامدي هو الأكثر تعرضاَ للهجوم والمضايقات وذلك لسببين:

1- كونه يشغل منصباً إدارياً مهما في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مدير الهيئة بمكة المكرمة.

2- كونه الأكثر وضوحاً وشمولاً في طرحه والأعمق في ردوده وأدلته الشرعية والأجرأ في المواجهة والأكثر موضوعية في المناقشة، لقد بلغت المضايقات أنهم أرادوا الإساءة إليه في بيته ثم أردوا فصله من عمله لولا تعليمات عليا باستمراره، كما شنوا عليه هجوماً شرساً لا يراعي ذمة ولا كرامة، ولكن الرجل هادئ وصابر وصامد يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالذي هو أحسن، وأشهد أني رأيته في برنامج- إضاءات- فوجدته عقلية نقدية شرعية مستنيرة لا يضيق بآراء الخصوم ولا يجرحهم، لكنه قوي العزيمة متمسك بآرائه، يقول في مواجهة العاصفة: "أحمد الله أن عظم في قلبي الحق ووفقني للقول به وثبتني عليه، فهو سبحانه النافع الضار وليس أحداً سواه، وقد سليت نفسي بقوله تعالى- واصبر وما صبرك إلا بالله- كما أحمده أنني ممن تربى قلبه على حب الدليل والتمسك به، فلم أزدد ولله الحمد بما رأيت من ردود الأفعال إلا معرفة بفضل الله علي، واعتمادي وتوكلي عليه سبحانه فيما ابتليت به ممن بغى واعتدى وظلم، فهو حسبي ونعم الوكيل".

وبعد: يذكّرني موقف الشيخ الغامدي والمرحلة التي يمر بها المجتمع السعودي اليوم بمرحلة مضت قبل ثلاثين سنة في المجتمع القطري حين دعوت في محاضرة جامعية عامة تناقلتها الأفواه والأشرطة (الكاسيت) إلى أن تلعب- جامعة قطر- دوراً في التقارب بين الجنسين الطلاب والطالبات "الاختلاط المأمون" بهدف تسهيل أمور الزواج، فقامت قيامة المجتمع المحافظ علي، خصوصاً مشايخنا حراس الفضيلة، وتناولتني ألسنة وأقلام ومنابر، لكني أشهد بأني لم أتعرض لمضايقة لا في أهلي ولا في أسرتي أو أولادي ولم أضر في وظيفتي بل رقيت عميداً لكلية الشريعة، وكان أقصى ما فعله المعارضون، نشر مقالات وتأليف كتيبات ضد طرحي، لكن كل ذلك أصبح اليوم في ذمة التاريخ، إذ أشرق فجر عهد جديد مكَّن المرأة القطرية من حقوقها المشروعة كافة.

 صبراً أيها الشيخ المجاهد، فإن التغيير سُنّة الحياة، وإنك بالحق منصور، مصداقاً لقوله تعالى: "وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".

* كاتب قطري

back to top