عقب الحرب العالمية الأولى، عندما كانت تركيا تحت احتلال ست دول، نجح أتاتورك في انقلابه، وباشر تحرير بلاده، فهزم الجيش البريطاني وحرر اسطنبول، ثم أرسل إلى إيطاليا رسالة، كعادته، مختصرة: «اخرجوا من بلادنا فوراً، التوقيع مصطفى كمال»، فثارت ثائرة السلطة الإيطالية: «كيف يجرؤ راعي الغنم هذا على التحدث مع إيطاليا العظيمة بهذه الطريقة؟»، وأعلنت إيطاليا أنها غاضبة وستتخذ تدابير أشد مع تركيا، وراح الزعماء السياسيون يدبجون الخطبة تلو الخطبة، ويرتقون البيان في ذنب البيان، بينما كان أتاتورك يعزز جيشه بصمت. وطرقت الحرب الأبواب، فكتب أحد العقلاء الإيطاليين: «تركيا ستفترسنا، ولست عسكرياً، فأنا لا أفهم الخطط الحربية، لكنني أعرف أن الدول تنهض وتنتصر وتفشل وتُهزم بقياداتها، وإيطاليا اليوم تحت سلطة الضعفاء واللصوص، في حين تعيش تركيا أزهى عصورها لوجود حاكم مثل مصطفى كمال، الذي أحاط نفسه بخيرة رجال تركيا، وهم مجموعة تختلف عن (حبيبنا) السلطان العثماني ودراويشه، فلا تدخلونا في حرب معهم أرجوكم. انسحبوا من أرضهم فوراً كما طلبوا، فالخشية أن تنقلب الأمور فيحرروا بلدهم ويحتلوا جزءاً من بلدنا»... وهذا ما تم فعلاً، وتبهدلت إيطاليا شر بهدلة، وكتبت الصحف الأوروبية: «الجزمة الإيطالية تغوص في الوحل»، في إشارة إلى خريطة إيطاليا الجغرافية التي تشبه الجزمة.

Ad

إذاً، الدول تنجح وتفشل وتنتصر وتُهزم بحسب حكوماتها، كما قال ذلك الإيطالي، فإيطاليا ذاتها التي كانت تحتل تركيا أيام السلطان، هي ذاتها التي راحت تستجدي أتاتورك إيقاف الحرب وتعلن استعدادها لتنفيذ جميع شروطه، بما فيها تحمل تكاليف الحرب. فما الذي تغير؟ فقط شيء واحد، الحكومة التركية.

ومنذ أن كانت بيوت مانهاتن من العشيش والصفيح، ومنذ أن كان الباريسيون ينقلون الماء على الحمير، وحكوماتنا تعاني أزمةَ البدون، وتحك جبهتها حيرة أمام مشكلة بهذا الصغر. وعندما غضب الشعب، راحت الحكومة تلوح بعصاها وتقسم لنا بأغلظ الأيمان أن قضية البدون ميتة لا محالة، فصدقناها واصطففنا للصلاة على الميت في انتظار وصول الجنازة، لكنها لم تصل بعد! يبدو أن الحكومة تؤمن بفلسفتي، فأنا أسعى إلى تحقيق أحلامي وأتمنى ألا أنجح كي لا أموت حيّاً، والحكومة كذلك مع قضية البدون.

بعض الزملاء صوروا القضية «كرة ثلج تتدحرج من أعلى الجبل»، وصورتها أنا «كرة جمر تتدحرج علينا من فوهة البركان»، وصورتها الحكومة «قطعة خبز ملفوفة بالقصدير الأصلي لتحافظ على حرارتها سنين عدداً». وما بين الثلج والجمر والخبز، كتب العقلاء الكويتيون: «أنهوا القضية فوراً، بالتي أو اللتيا، أيهما قبل، فالخشية أن تنقلب الأمور ويُفرض علينا من الخارج ما لا يرضينا». فرأت الحكومة أنّه «إذا كليت بصل، فاشبع بصل»(1)، وقررتْ أن تضيف على البدون «بدوناً» جُدُداً، هم أبناء الكويتيين من أمهات «بدون»، رغم المخالفة الصريحة السافرة للقانون.

ومنذ أن قرأت ما كتبه الزميل سعود العصفور في «الراي» يوم الأحد الماضي وأنا أضحك دمعاً، وأتخيل كيف أن الحكومة التي تبكي من ثقل قضية البدون، تضيف حملاً آخر على كتفيها. يا دان وادانة، دانة علم دانة.

ووالله لو كانت الحكومة زوجتي، لأرسلتها منذ اليوم الثالث على الأكثر إلى أهلها، ولأرسلت إليها ورقة طلاقها على ايميل «ياهو» أو «غوغل»، أيهما أسرع.

(1) من الأمثال، ويعني الهروب إلى الأمام.