أيام الصيفية (*)
للفصول أرواح وأحوال، وفصل الصيف أثقلها روحاً، وأشدها وطأة في إيقاعه وأوقاته!تمر ساعاته زاحفة على القلب كما تمر الأظافر على سطح حديد صدئ، فتنطلق رائحة (زنجار) حامض، مخلوطة بنكهة كآبة كافرة. هل عدد ساعات اليوم الصيفي أربع وعشرون ساعة حقاً؟ لماذا إذن يرسمها سلفادور دالي ساعاتٍ مائعة ممطوطة كالبيض الفاسد، ملقاة على كتف صحراء في اللامكان؟! وأين تكون هذه الصحراء الفنتازية الموحشة؟ في إسبانيا موطن الرسام؟ أم في باريس؟ أم في لندن؟ أم في لوس أنجلوس؟ أم عندنا ما بين الدائري الرابع والخامس؟ والصيف هو الصيف يتبعنا بشمسه وصفرته وآصاله الطويلة أينما هربنا، وأينما حزمنا حقائب الثياب وحقائب القلب، إذ نراه يسبقنا كفزّاعة الحقل وينتصب مصلوباً على ساعة بغ بن وبرج إيفل ومظلات السوليدير وطوابير الانتظار في ديزني لاند!
تطول بنا الساعات في غرف الفنادق انتظاراً لانكسار الشمس، ولافتات (Do not disturb) تظل معلقة على أكر الأبواب، بينما عمال (الروم سيرفس) يذرعون الممرات بعربات الخدمة انتظاراً لخروج أولئك المتلكئين. وأخيراً حين تشيح الشمس خدها عن الأفق نطل برؤوسنا بحثاً عن الظل والنسمات المتعربشة في ذيول اليوم الآفل، آملين أن نلحق بآخر رشفة عصير أو ملعقة آيس كريم قبل أن تُسحب الطاولات الصغيرة إلى الداخل وتُغلق الشماسي إيذاناً بانتهاء يوم عملهم، بينما يومنا لما يبدأ بعد! أما الصيف اللندني فله في نفسي وذاكرتي بصمة وحكاية، حين يبدأ النهار منذ الثالثة والنصف فجراً ولا ينتهي إلا حوالي الساعة العاشرة مساءً! كم كانت مرهقة وممضة تلك الساعات المسائية المشمسة، التي تخرق اعتيادية التوازن في مفهوم الوقت، وتحيل الإنسان إلى ساعة شمسية خلعت عقربيها وفقدت رشدها! كيف لمن يعيش سنوات من عمره في هذا الطقس الصيفي المختل أن يعيد التوازن إلى حاسة الوقت في ذهنه وخياله؟ لم يكن أمامي من سبيل سوى أن أرخي الستائر الثقيلة في وجه الشمس، ثم أشعل أضواء الغرفة الكهربائية لأصنع حالة وهم بحلول الليل، لعل الألفة مع وقت الظلمة يهيئ مساحة للعمل ذي الإيقاع الليلي الأليف، فأنصرف ووهمي إلى الآلة الكاتبة، أدق عليها الأفكار والشوارد وأرسم من الحروف والأنفاس الليلية نافذة للخروج من سجن الوقت. منذ زمن ممعن في الغياب كانت تجلس صبية في صيف غابر على دكة الأصيل، وتبتلع الوقت البنفسجي مع جرعات الكوكا كولا الباردة، علها تختصر ساعة المغيب الرطبة بانتظار أن يموت يوم آخر من أيام إجازة الصيف، فتسارع إلى الرزنامة لتهرس رقماً من أرقام الأيام الممحلة، وتهيئ الفراغ لأمسية ليست أقل فراغاً. لكل منا حكاية مع الصيف، ولعل ألطفها وأخفها روحاً ما جاء في أغنية فيروز (آخر أيام الصيفية)، عن تلك الصبية التي انطلقت بسيارتها لتلتقي من تحب، ولكن الموعد لم يتم، بسبب تعطل السيارة في الطريق، أو بالأحرى التواء قدرهما وامتناعه. ورغم أفراح القلب وتفتح النوايا تنتهي الصبية إلى حالة من الوحدة والحسرة، معجونة بذبالات أيام الصيفية والمواعيد غير المكتملة:" تأخرنا وشو طالع بالإيد حبيبي سبقتنا المواعيدآنا لو فيّا... زورك بعنييِّوعمرا ما تمشي العربيّة"(*) من مدونتي (عين الصقر) بتصرف www.3ainsaqr.com