وأنا أحشر نفسي في كتابة مقال يتعلق بالخصخصة، ربما يدفع إلى التساؤل: «وأنت مالك ومال الخصخصة، دعي الخصخصة لأهل السياسة والاقتصاد؟»... ولكن ضميري في الداخل ظل ينخزني طوال الوقت، وحاولت التلهي عنه وإسكاته بمقولة إن هذا الموضوع للمتبحرين في علم سياسة البلد واقتصادها، وإنني لا علم لي بهذا المجال إلا تلك السنتين التي قضيتهما في دراسة الاقتصاد، ومثلهما في العلوم السياسية، ولم تنفعاني في شيء، فعقلي لا يفهم ولا يفك إلا الشفرات الفنية والأدبية، وقد عجز تماما عن فهم متاهة الضلال السياسي، وعن حل الشبكات الاقتصادية الملعوبة بحرفية المكر وبالتكتيكات الرهيبة.

Ad

ومع هذا ضميري لم يقتنع، وما زال ينقح عليَ ويحاول أن يقنعني أنه لا يمكن عزل الثقافة والفن عن محيط السياسة والاقتصاد، فنحن في عالم يدار بخطط السياسة والمال، فكيف يُصبح أي شيء بمعزل عنهما؟

لذا قررت أن أكتب مقالي هذا، وأنا أعلم أنه لا فائدة ترجى من كتابته، بس يكفيني أنه سيمنحني قليلا من راحة البال وشيئا من العزاء.

ففي الصيف الماضي كنت في مدينة كارلوفيفاري، وهي من المدن التي أعشقها، واكتشفت في حينها أن شركة الطيران التشيكية، وشبكة سكك الحديد وقطاراتها، وشركة سيارات شكودا، ومصنع باخروفكا، ومصانع أخرى قد تم بيعها لشركات أوروبية لخصخصتها، وأكثر شيء أحزنني فيها هو بيع نبع مياه متوني لشركة فرنسية، وبالرغم من أنه أمر لا يخصني، وليس فيه ذرة مصلحة لي، ولكني حزنت لبيع نبع ماء يجري في الأرض التشيكية، ويخص ناسها لأجيال وأجيال قد بات ملكا لدولة أخرى، فمن الصعب أن يكون نبع ماء يجري في بلدة ما ويكون مملوكا لدولة خارجها.

والمفاجأة جاءتني في هذا الصيف عندما حل الدور علينا، لنبيع شريان البترول في أرضنا لشركات خاصة، وليصبح ملكا لفئات بعينها دون الآخرين الذين لا حول ولا قوة لهم فيها، وليصبح هذا البترول الذي نفخر بأنه ملك لنا، فخرا لأناس آخرين بأنه ملك لهم أو انه عائد لشركاتهم دون عناء.

وهذا يشعرني كأني أبيع بيتي، وأكتفي بأن يكون لي فيه منامة أو مخدة أو استكانة أو كوب.

كل شيء قابل للبيع، ولكن لا أتصور أن تباع الأنهار أو البحار أو الينابيع أو الأراضي والجزر، وما يجري في شرايينها من ماء وبترول ومعادن، فهذه غير قابلة للبيع والخصخصة، لأنها ملك لأجيال وأجيال قادمة، فبمجرد وجودها في الوطن يشعر المرء بالفخر والعزة والفرح والكرامة، لأنها رمز يعود لوطنه، وما لوطنه فهو له ولأولاده من بعده.

ومع هذا فالخصخصة لها إيجابياتها التي لا أنكرها، وأهم ما فيها القضاء على البيروقراطية المتفشية، والفساد المعشعش الذي بات سمة عامة، وتحسين الأداء الوظيفي، وخلق روح المنافسة، وتقدير الكفاءات الضائعة في دهاليز المحسوبية والواسطة والمعارف، وخلق زيادة ووفرة مالية في مدخول دولتنا الريعية وأشياء أخرى.

ولكن المخيف في الخصخصة، وخاصة في بلدنا يكمن في تفاصيل تطبيقها، ومدى قدرة وفاعلية الجهاز الحكومي في مراقبة ومحاسبة وحماية المال العام من الهدر، ومن التبديد والضياع في مسارب يصعب اكتشافها، أو مراقبتها أو محاسبتها وإدانتها.

وساعتها ستضيع الأمور ونضيع معها في هوة لا نعرف كيف نلمها أو نصححها أو نعالجها، ولن يكون هناك أي دواء أو مرهم قادر على الطبابة ومنح الشفاء.