في عام 1994 كنتُ قادماً من نيويورك التي كنتُ أقيم بها وفي ذهني أحلامٌ سينمائية لن تتحقق لاحقاً، كانت وجهتي مدينة القاهرة، هناك في ذلك الزمن تعرفتُ عن قرب على السينمائي المصري الراحل رضوان الكاشف، كنا نلتقي على نحو يومي تقريباً في «الجريون» على مدى ستة أشهر، وهي الفترة التي أمضيتها في القاهرة. كان رضوان يخالط الأدباء والكتّاب أكثر من مخالطته السينمائيين، وكان على وجه الخصوص يحبُّ الشعر والشعراء وكتّاب الرواية، كان اللقاء عفوياً ومباشراً، وكان رضوان على الصعيد الإنساني ذا أريحية عالية. كان صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، لذلك ربما لم يتنازل عن أفكاره التي تضمنتها أفلامه الروائية الثلاثة، وقد أثارت هذه الأفلام جدلاً واسعاً في مصر والعالم العربي، كما نالت جوائز عديدة في مهرجانات عربية وعالمية. إن الميزة النادرة في أفلام الكاشف هي أنها أفلام تحتوي على «ثقافة» وبالتالي على «رؤية» دون فذلكة أو ادعاء، وما يربطها جميعاً هو خيط يكاد يكون واحداً دون أن يمنع عنها نوعاً من التنويع الذكي والأصيل. ظهر الكاشف ضمن جيل متشبع بهموم التجربة السياسية والثقافية، وكان الكاشف في السبعينيات من القرن الماضي أبرز المحركين للوسط الطلابي المصري، هو خريج الفلسفة ثم المعهد العالي للسينما لاحقاً، المولع بالكتابة أيضاً.

Ad

عمل رضوان الكاشف في بداية مسيرته السينمائية القصيرة مساعداً للمخرجين، يوسف شاهين، ورأفت الميهي، وداوود عبدالسيد، ثم قدم أول أعماله السينمائية الروائية الطويلة «ليه يا بنفسج» تناول فيه الحارة المصرية، وعالم المُهمَّشين، متعاطفاً مع أحلامهم وانكساراتهم في عالم ضاغط واستهلاكي إلى أبعد الحدود. حصل الفيلم على اقبال جماهيري واسع كما نال عدداً من الجوائز.

يهتم رضوان الكاشف بالتفاصيل والزوايا المهملة، فيدرسها على نحو جيد، لذلك تبدو اللقطات في أعماله بالغة العمق، كما في فيلمه الروائي «عرق البلح» حيث قدم لوحة بصرية فائقة الشفافية عن عالم الجنوب المصري بعيدا عن عالم المدن الكبيرة كالقاهرة والاسكندرية السائد في السينما المصرية، وهكذا حصد هذا الفيلم 22 جائزة في مختلف المهرجانات التي شارك فيها.

لم يكن غريباً على رضوان الكاشف أن يستهل تجربته السينمائية عن الجنوب المصري، فهو في الأول والأخير ابن هذه المنطقة، إحدى قرى سوهاج في أقصى جنوب مصر وقدم أول أفلامه «الجنوبية» وهو فيلم التخرج من المعهد العالي للسينما، فكان تدشيناً عملياً في مسيرة تجربته السينمائية، ونمَّ منذ البداية عن رهافة روحية وفهم جمالي خاص عن آلام ومعاناة المرأة المصرية في الجنوب. أما آخر أفلامه «الساحر» الذي كثر الجدل حوله حينئذ، فقد نجح فيه المخرج في صياغة منظومة فكرية وجمالية بجرأة شديدة عن معاناة المُهمَّشين، وهي موضوعاته الأثيرة على أي حال. بعد سنوات طويلة التقيتُ رضوان مرة أخرى في عام 2002 بمناسبة المهرجان السينمائي الذي أقيم في مسقط، وفور لقائي به في بهو فندق حياة رجنسي دعاني إلى غرفته، فاكتشف كلٌ منا أنه كان يتتبع أخبار الآخر عن طريق أصدقاء مشتركين. خلال تلك الفترة حدثني كثيراً عن أحلامه ومشاريعه السينمائية، عن همومه وهموم الجيل السبعيني الذي اكتهل قبل الأوان، تحدثنا عن الشِّعر، عن السينما، المدن، الحروب العولمة، إلخ. وفي كل هذا كان رضوان فتياً من الداخل، صادقاً رغم الاحباطات، ذا دعابة مصرية أصيلة، حزنه شفيف، داخلي، وكان بالإضافة إلى ذلك نديماً من الطراز الأول. وعندما رحل أحسستُ كأن الساحر يختصر العالم بضربة جناح مثل ملاك مفجوع.