أنسنة الخطاب الديني
مازلت مؤمناً بأن إصلاح الخطاب الديني هو المدخل الضروري لإصلاح الأوضاع العامة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وطبقاً لإعلان باريس- أغسطس 2003– فإن تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لعبور الفجوة بين العالمين العربي والإسلامي والعالم المتقدم، وعامل رئيس في تجديد الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي، هذا الخطاب السائد عبر 3 عقود هو إنتاج ما سمي بـ"الصحوة الدينية" التي صعدت على أكتاف خطباء تيار الإسلام السياسي عقب إفلاس وانحسار طروحات التيارين: القومي واليساري، وهو يعاني اليوم وضعاً مأزوماً، وقد أصبح عاملاً معوقاً لنهضة مجتمعاتنا. لقد فشل هذا الخطاب في تقديم خطاب حضاري ومتصالح مع العالم ومع مجتمعاته ومع نفسه، كما فشل في حماية مجتمعاتنا من أمراض التطرف والغلو، وأخفق في تحصين الشباب من آفات الفكر الإرهابي، وحمل الخطاب الإسلامي المهاجر إلى ديار الغرب آفات المجتمعات الإسلامية معه، فزاد المسلمين رهقاً واستغله اليمين المتطرف ليزداد الإسلام والمسلمون إساءة.
لقد أخفق الخطاب في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام وتحول إلى عامل تأزيم وفرقة بين المسلمين، ومصدر تهديد للوحدة الوطنية، أصبح الخطاب الديني السائد عبر المنابر الدينية والفضائية والإلكترونية خطاب تعبئة وشحن وتجييش وتحريض على الكراهية، وتكريس الانقسام بسبب «التسييس» الضار الذي ابتلي به منذ بزوغ نجم دعاة الإسلام السياسي. وعندنا نموذجان بارزان لهذا «التسييس» الضار: الأول: داعية شاب من شباب الصحوة آتاه الله بلاغة وحضوراً وجاذبية فأصبح له أنصار ومعجبون وصار صديقاً للفضائيات، اعتلى منبر الجمعة وكال الاتهامات لإخواننا الشيعة وعرض بمرجعهم الديني– الحكيم السيستاني– وما كان رسول الله– صلى الله عليه وسلم– شتاماً ولا داعية فرقة، فلماذا يتخذ منبره فيما يناقض سنته وهديه؟! ولماذا إشغال المصلين بقضايا سياسية خلافية؟ ولماذا استباحة عرض المسلم وانتهاك قدسية المسجد؟ وبأي حق يحول الداعية منبر المسلمين إلى منبره الخاص؟! النموذج الثاني: نجم بارز من نجوم الإسلام السياسي له مريدون كثر عبر الساحة، يصفونه بـ«فقيه الصحوة» حوّل منبر الجمعة الديني إلى منبر سياسي أسبوعي خاص لبث آرائه وتوجهاته السياسية الخاصة، يرى أن من حقه أن يتدخل في شؤون الدول الأخرى فيصدر «الفتاوى السياسية» تبعاً لمواقفه من تلك الدول، ولا يتورع عن الانحياز إلى طرف سياسي ضد آخر. لا نصادر حرية الدعاة في التعبير عن آرائهم السياسية لكننا نرى أن ذلك ليس مكانه منابر بيوت الله التي يجب أن تصان عن الخلافات السياسية والصراعات المذهبية، يجب أن ننزه منابر بيوت الله عن اللغو السياسي ولا ينبغي اتخاذها منبراً لتصفية الحسابات السياسية والشخصية، لا وسيلة لبث الفرقة بين المسلمين. نحن مع «التسييس» النافع الذي يؤلف بين المسلمين ويجمع أمرهم ويصلح ذات بينهم، ويبصرهم بالأخطار والتحديات من حولهم، ويعزز المشترك الديني والوطني والإنساني بينهم، نحن مع «التسييس» الذي يتجاوز الخلافات السياسية والمذهبية ويدفع المسلمين إلى المزيد من العطاء والإنتاج والتفاعل مع العالم، نحن مع هذا الخطاب الذي ينتصر لكرامة الإنسان ويدافع عن حقوقه وحرياته. إننا اليوم بحاجة ماسة إلى «أنسنة» الخطاب الديني ليصبح خطاباً يحتضن الإنسان لكونه «إنساناً» كرمه الخالق عز وجل، نريد تحبيب شبابنا بالحياة والعمل والتنمية ومساعدتهم في توظيف طاقاتهم في ميادين السباق الحضاري لا الهدم والتدمير وإزهاق الأرواح، نريد خطاباً إنسانياً يشيع مشاعر البهجة والسرور والفرح في مجتمعاتنا، ويؤكد القيم الأخلاقية، نريد خطاباً إنسانياً متسامحاً ومنسجماً مع روح العصر ومنفتحاً على الثقافات الإنسانية، يزيل توجس العالم منا كما يزيل هواجسنا التآمرية تجاهه، لقد خسرنا كثيراً برفضنا للعالم أكثر من رفض العالم لنا.* كاتب قطري