لو كان تاريخنا رجلاً لخرج لنا مثقلاً بجراحه واهناً متململاً من تكرار الماضي دون استفادة من دروسه... ثمانية قرون منذ النكبة التي أصابت العقل في شرقنا بهزيمة الفيلسوف ابن رشد، ولا يزال الغوغاء يهتفون حول لهيب النيران مهللين لاعنين شاتمين... ثمانمئة سنة عجاف مرت ونحن نكرر نفس الأخطاء، والنتيجة أننا نجني نفس الكوارث مهما طال الزمن... لقد كانت نكبة ابن رشد مرحلة مفصلية انتصر فيها الفكر الأصولي على الفكر العقلاني الحر... ذلك الفكر الذي تأسس على العقل والنقد وتأويل المعاني الحرفية للنصوص، والاستفادة من إنجازات الأمم الأخرى ومعارفها.

Ad

فكانت معركة ابن رشد الأساسية هي مواجهة تكفير الفلسفة في رده على كتاب "تهافت الفلاسفة" لأبي حامد الغزالي، ليكتب ابن رشد "تهافت التهافت"... لينتصر الفكر الغزالي وتدشن هذه المرحلة بداية الانغلاق الفكري الذي أنهى عصراً ذهبياً من التسامح والانفتاح و"الليبرالية"... وهو عصر مازال المسلمون يتوقون إليه... فقد ساهمت نكبة ابن رشد في هزيمته الفكرية حين حاربه رجال الدين المتزمتون، فكفروه وأخرجوه من الملة بعد أن كان قاضياً وفقيهاً وفيلسوفاً وطبيباً يحترمه الخلفاء ويبجله الناس لنزاهته وعلمه وسمو أخلاقه. فلم تأخذه لومة لائم في نقد الطغيان السياسي والاستبداد الديني، وكان جريئاً في النقد وفي وصفه رجال الدين المتزمتين بـ"المقلدين"... فرضخ الخليفة للمتزمتين في محاولة لاسترضائهم، لاسيما أنه في حاجة إلى دعمهم في حربه مع الإفرنج... فأصدر منشوراً يدين ابن رشد ورفاقه... وأمر بنفيه وإحراق كتبه وسط تهليلات وتكبيرات الغوغاء... فتعرض ورفاقه للتنكيل والإهانة والمحاكمة في مشهد أصبح يتكرر إلى يومنا هذا.

ولكن لم تمت الفلسفة الرشدية... فقد تبناها الرشديون الأوروبيون... فكفرتهم الكنيسة ولاحقتهم واضطهدتهم، وأعلنت حرباً شرسة ضدهم دامت سنوات طويلة... جندت خلالها قديسين (كتوما الأكويني) للهجوم على الفلسفة الرشدية والرشديين الأوروبيين... لكنها انتصرت آخر المطاف حين احتضنتها جامعة "بادوا" في إيطاليا (أهم مركز دراسات في عصر النهضة)، وحسب رونالد سترونبرج، هي ذات الجامعة التي درَس فيها العالمان كوبرنيكوس وغاليليو... وبينما هزمت الفلسفة الرشدية في عقر دارها... انتصر لها الرشديون الأوروبيون... ففازت الأصولية المتزمتة في الشرق واستفحلت، وخسرت في الغرب ودحضت... وأضحت الفلسفة الرشدية شرارة الليبرالية والفكر الحر في العالم المتحضر.

ويا لسخرية القدر... الذي زرع عقلاً في شرقنا ليؤتي ثماره في الغرب... فماتت الرشدية في عقول قاحلة، وعاشت واخضرت في عقول خصبة عزمت على اقتلاع جذور الجهل والخرافة والجمود... وفي الوقت الذي كانت كتب ابن رشد تأكلها النيران في الشرق، كانت تلتهمها العقول في الغرب... فحُرقت في الشرق وأصبحت رماداً، وعاشت في الغرب وغدت شعلة أضاءت الخطوات الأولى لعصر النهضة... غربت العقول في الشرق فكُبلت وسُجنت في غياهب الظلام، وشرقت في الغرب فتحررت الأفكار وجاء التنوير... لنفخر اليوم بكل غرور بذلك العالم المسلم الذي كان سبباً في نهضة أوروبا، بينما فشلنا نحن في استيعاب فلسفته... فكان سبباً في هزيمتنا.

ألا يحق للتاريخ الذي ضاق بنا ذرعاً، بعد ذلك، أن يرحل تاركنا نعاني الغربة كتلك التي عاشها ابن رشد ورفاقه؟