مكتب التحقيقات الفدرالي يحبط شبكة تجسس غير اعتيادية
سبّب انفضاح معلومات شبكة التجسس الإحراج في موسكو، ليس بسبب الإمساك بروسيا متلبّسةً بالتجسس على الولايات المتحدة، وإنما لتنفيذها المهمّة بقلّة إتقان، وأسف قدامى العناصر في "الكي جي بي" في الأسبوع الماضي على تردّي المعايير الاحترافية لديهم.
حبر سري، ولقاءات في متنزه، ومبالغ مالية مدفونة، وتبادل أكياس في محطات، وفتاة جميلة شبيهة بفتيات جيمس بوند، كلّها عناصر كفيلة بتحويل قصة العملاء الروس السريين الأحد عشر الذين كشف مكتب التحقيقات الفدرالي أمرهم في الأسبوع الماضي إلى فيلم تجسس منخفض الميزانية. لكن هذه القصة تتضمن أيضاً الكثير من العناصر التي تجعل منها محاكاةً ساخرة تهريجية: جواسيس يفشلون في كشف أي أسرار بينما يعرضون صورهم على موقع Facebook، ويتجادلون مع أسيادهم بشأن امتلاكهم منزلاً آمناً.وفقاً للمستندات التي زوّد بها مكتب التحقيقات الفدرالي المحاكم، كان المشتبه فيهم عملاء "غير شرعيين" تابعين لوكالة الاستخبارات الأجنبية الروسية، المتفرّعة من جهاز المخابرات السوفييتي "كي جي بي"، وقد عاشوا عموماً منذ تسعينيات القرن الماضي في "تخف تام" في الضواحي الخاملة من نيويورك، وبوسطن وواشنطن العاصمة.
لقد أحسنوا التخفي، وبحسب ما أفاد أحد الجيران لصحيفة نيويورك تايمز: "من غير المعقول أن يكونا جاسوسين... انظروا ماذا فعلت بنبتة الكوبية". لكنهم لم يحسنوا التجسس، فلم ينجح الجواسيس حتّى بما يكفي لإثارة تهم تجسس ضدهم، وقضت مهمتهم، على ما يبدو، باختراق الأوساط السياسية النافذة في الولايات المتحدة ومعرفة ما يفكرون به حول روسيا فضلاً عما يعتزم أوباما فعله بعد القمة التي انعقدت العام الماضي في موسكو، لكن بحسب الأدلة لم ينجحوا سوى في تحصيل المعلومات التي تُستقى عند قراءة أفضل الصحف. يُذكَر أن إحدى الجاسوسات المفترضات، فيكي بيلاييز، كانت محررة يسارية في صحيفة El Diario، أضخم صحيفة ناطقة باللغة الإسبانية في نيويورك.في هذا الإطار، ترسم المستندات التي قدّمها مكتب التحقيقات الفدرالي للمحاكم صورة لفريق غير مؤهّل مهنياً يحاول تبرير جدواه ونفقاته لأسياده في موسكو، وهكذا يذكّر الحوار المُعترض بين المتآمرين برواية Our Man in Havana لغراهام غرين أكثر منه بأي رواية ألّفها إيان فليمينغ:لازارو: قالوا لي إن معلوماتي لا قيمة لها لأنها غير مزوّدة بمصدر... وبالتالي لا جدوى منها.بيلاييز: حقاً؟لازارو: أجل. يقولون إنها... من دون مصدر... لا تذكر من يقول كل ذلك... ليست... تقريرك ليس... بيلاييز (مقاطعةً): دوّن اسم أي سياسي من هنا. وفي رسالة أخرى مُعترَضة، يبدي مدير وكالة الاستخبارات الأجنبية الروسية اهتماماً قلقاً في المنزل الذي يعيش فيه الجاسوسان. "لدينا انطباع بأن وكالة الاستخبارات الروسية ترى ملكيتنا للمنزل بمنزلة انحراف عن هدف مهمّتنا الأساسي ههنا. لذا نود طمأنتكم بأننا نذكر ما هو".سبّب انفضاح هذه المعلومات الإحراج في موسكو، ليس بسبب الإمساك بروسيا متلبّسةً بالتجسس على الولايات المتحدة، وإنما لتنفيذها المهمّة بقلّة إتقان، وأسف قدامى العناصر في "الكي جي بي" في الأسبوع الماضي على تردّي المعايير الاحترافية لديهم. لكن للفضيحة آثارا محلية أكثر خطورةً أيضاً، إذ تبدد الهالة التي سمحت للأجهزة الأمنية بالتمتّع بهذا القدر الكبير من النفوذ في ظل عهد فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي وجاسوس سابق في "الكي جي بي". شوّهت هذه القصة بالتالي سمعته وسمعة من يحيط به من الأعضاء السابقين والحاليين في أجهزة الاستخبارات، فأن يكونوا محط سخرية أسوأ من أن يُهابوا.في المقابل، حاول بوتين التقليل من أهمية الحادثة برمتها، ففي حديث له مع بيل كلينتون، نجح تقريباً في تحويل الأمر برمتّه إلى دعابة: "لقد اخترت الوقت المناسب للقدوم إلى موسكو. سمعت أن الشرطة لديك أخذتها الحماسة وزجّت ببعض الأشخاص في السجن... لكن ذلك واجبها في النهاية، فهي حقاً تؤدي واجبها فحسب...". فضلاً عن ذلك، كان رد وزارة الخارجية الرسمي الروسي متحفّظاً، لا سيما مقارنةً بردودها العنيفة منذ سنوات خلت. فقد أقرّت بأن المهاجرين "غير الشرعيين" المعتقلين هم بالفعل مواطنون روس وأعربت عن أملها بأن تبدي الولايات المتحدة تعاطفاً معهم. وعلى نحو مماثل، كان المسؤولون الأميركيون هادئين في ردودهم. يقول روبرت جيبس، المتحدث باسم الرئيس الأميركي: "لا أعتقد أن ذلك سيؤثر في عملية ضبط علاقاتنا مع روسيا، لقد أحرزنا تقدّماً كبيراً العام الماضي وقطعنا نصف المسافة في المسائل ذات الاهتمام المتبادل".مع ذلك، بدا توقيت الاعتقالات محيّراً، إذ جاء بعد سنوات من بدء العملية ولكن بعد أيام قليلة فقط من لقاء باراك أوباما الودي الأخير مع الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف. تتعدد بالتالي نظريات التآمر، فهل كان المتشددون في واشنطن يهدفون من وراء هذه الفضيحة إلى تدمير العلاقة التي تشهد تحسناً مع موسكو؟ وهل خطط لها المتشددون في موسكو لإضعاف ميدفيديف؟ وهل كان القصد منها تعزيز قبضة ميدفيديف ضد أجهزة الاستخبارات كجزء من سياسة أميركية لتأليب ميدفيديف على بوتين؟ أمّ خُطط لها لمجرد أن تحظى الإدارة بدعاية جيّدة بعد أسابيع عصيبة؟ تأكّدت صحّة الملعومات التي تفيد بأن المشتبه فيهم كانوا على وشك الهرب من واقع أن أحدهم فرّ بالفعل إلى قبرص حيث أُلقي القبض عليه وأُطلق سراحه من دون تبرير. في جميع الأحوال، لا يرغب الأميركيون أو الروس على ما يبدو في تعريض عملية إعادة ضبط العلاقات بينهما للخطر. أمّا بالنسبة إلى مصير المهاجرين غير الشرعيين، فقد يكون لدى بوتين بعض النصائح الجيّدة، فحين قُبض على الجواسيس البريطانيين في موسكو وهم يستخدمون جهاز إرسال مُخبّأ في صخرة، أكّد بوتين أنه ما من داع لترحيلهم: "فإن أُرسل هؤلاء الجواسيس إلى بلادهم، فسيُرسل آخرون إلى بلادنا. ربما سيرسلون لنا عناصر بارعة سيصعب علينا إيجادهم".