«بلاك بيري» و نادية الجندي
وماهي إلا غضبة مضرية... حتى هجمت الدول العربية هجمة رجل واحد على الـ»بلاك بيري» فإما أن تطل أجهزة الأمن برؤوسها على ممرات وشوارع هذه التقنية الجديدة، وإلا فالمنع وقطع الخدمة وإلغاء العقود، فنحن أناس لا توسط عندنا والتكنولوجيا تزعجنا وتقلقنا وتسبب لنا حكة في الظهر ومرارة في الحلق ما لم نتمكن من السيطرة عليها وزرع العيون بين أسلاكها الدقيقة!
لا شك أن الخوف من استغلال المنظمات الإرهابية لهذه التقنية في إعادة الاتصالات النشطة بين خلاياها النائمة والمستيقظة أمر مقلق، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن دولاً مثل الولايات المتحدة لدى أجهزتها الأمنية الحق في الدخول على مراسلات الـ»بلاك بيري»، وأن العديد من الدول العربية تواجه تهديدات إرهابية لا تقل عن التهديدات التي تواجهها أميركا، ولكن هل انقطعت اتصالات الإرهابيين في يوم من الأيام كي تتوقف على الـ»بلاك بيري»؟هل نخشى على أخلاق شبابنا «الأبرياء» من تأثير المواقع الإباحية التي قد يدخلونها بالصدفة فتحمر وجناتهم خجلاً؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا نسمح إذن ببيع بطاقات القنوات المشفرة التي تقدم الفنون الإباحية بمختلف اللغات مع الحرص على كتابة دعوات الصداقة بلغة الضاد باعتبارنا أصدقاء صدوقين في مثل هذه المسائل؟! لقد قالت الشركة المنتجة: عليكم أن تتقبلوا نتائج التعامل مع التكنولوجيا الحديثة أو تتركوها، ولكن هذا الكلام «ما يمشي عندنا»، وهي بالتأكيد ستركع عاجلاً أم آجلاً لشروطنا، فنحن لن نتقبل نتائج التكنولوجيا الحديثة ولن نتركها، بل ستتراجع الشركة المنتجة عن تصلبها لأسباب اقتصادية وتصمم لنا التكنولوجيا التي نستطيع أن نتقبل نتائجها، وسوف ندفع بالطبع كلفة التعديل والتحوير «بفلوسنا... بكيفنا».نعم... سينتصر العرب في معركة الـ»بي بي» الخالدة، فشركات الاتصالات ستخسر عقوداً بالمليارات (في السعودية وحدها 800 ألف مشترك في هذه الخدمة)، أما المستهلكون العرب، فإن آخر ما يعنيهم هو الحديث عن سرية الاتصال والتراسل الذي يعد بنداً أساسياً من حقوق الإنسان، فقد اعتادوا المراقبةَ منذ الطفولة وليس لديهم أي شيء يخفونه، وكلهم أمل أن توافق الشركة المنتجة على شروط الحكومات العربية كي يعودوا إلى إرسال النكات وقصائد الغزل، وهكذا ستجد الشركة المنتجة نفسها تدافع عن قضية لا يؤمن بها أحد، وأنها ستخسر أموالاً طائلة دون مبرر في الوقت الذي يمكن أن تحقق فيه أرباحاً إضافية من استحداث تقنية خاصة للمراقبة فتقرر أن «تأخذنا على قد عقلنا»، وهذا ما نريده بالضبط!المشكلة الكبرى أن التقنية اليوم تتطور بسرعة عجيبة وتكنولوجيا الاتصالات لا تتوقف عن تحقيق قفزات هائلة لا يمكن تخيلها، ولن يكون غريباً أبداً لو ظهرت خلال السنوات المقبلة شبكات اتصال كونية كثيرة لا يمكن السيطرة عليها ولا يمكن تسخير ملايين الموظفين لمراقبتها، كما أن التنظيمات الإرهابية وشبكات التجسس لن تعدم الوسيلة في إنتاج وسائل اتصال وشفرات سرية للتواصل دون الحاجة إلى مثل هذه التقنيات المراقبة أمنياً، تماماً مثلما فعلت نادية الجندي في أحد أفلامها التجارية حين كانت تردد داخل تل أبيب الشفرة التي عجز خبراء الموساد الإسرائيلي عن كشفها: «خالتي بتسلم عليك»!* كاتب سعودي