نعم، شاركتُ في الانتخابات العراقية بلندن، على أثر مغادرتي المستشفى بيوم واحد، بعد عملية جراحية ليست كبيرة، كان بردٌ، ولكن شمس لندن، على غير عادتها، أكثرُ من كافية لضمان الدفء. لم أكن أبيّتُ في رأسي انتخابَ تآلفٍ، حزبٍ، أو فرد، لأن جسدي وروحي وعقلي لم يكن يوماً محراباً لفكرةٍ أو عقيدة أو توجّه بعينه. كنت أود لو أكون صوتاً نافعاً لمجموعة الديانة «المندائية» الصغيرة المرشّحة، لأن هذه الديانةَ العراقيةَ القديمة قدمَ السومريين، إذا صح اجتهادُ بعضِ الدارسين، حضورٌ كونيّ نادر، بالغ الرقة في التعرض للتلف. ولكن لها مقعدها الواحد الجاهز في البرلمان، ولا نفع لها من صوتي! كنتُ أود لو أمنح صوتي لحرارة مؤمن أياً كان انتماؤه الديني، دون أن تكون حارقة بفعل احتقان العقيدة. فأنا أُميّز بين الإيمان والعقيدة، لأن الإيمان الديني يكتفي بصلة الكائن البريئة، براءة أمي، والمباشرة مع الله. في حين تفرضُ العقيدةُ وسطاء أشداء بين المخلوق وخالقه، كنت أود لو أصوّتُ لعذاب المواطن العربي، الكردي، التركماني، الآشوري دون احتقان النزعة القومية التدميرية، كنت أود لو أُصوّتُ لعدد من منتسبي الأحزاب المتعارضة، ممن رأيتُ وجوهَهم في الندوات التلفزيونية التي سبقت الانتخابات، ولمحتُ فيها سيماءً خاطفةً من ضعف الكائن الإنساني، حين يفتقد في المحاججة إلى ما يدعم ادعاءً لا ثقة له فيه. رأيتُهم، وميّزتهم. هؤلاء يملكون ضميراً حياً أصلبَ عوداً من صلَف القادرين على خلط الأوراق من أجل الانتصار، مهما كان الثمن. ضميرهم الحيّ يُضعف القدرةَ على الادعاء، وعلى الكذب والإيهام. ولكنه لا يُضعف صلابةَ الإيمان بأن الحقيقة، مهما كانت رقيقة المظهر، تيارُها داخلي كالجذور، كنتُ أود لو أصوّتُ لأغاني داخل حسن، زهور حسين، خضيري أبوعزيز، يوسف عمر... لو أنها تجسّدت في مرشّحٍ أو مرشحين. لأنها غمرت قلوب العراقيين، على امتداد أعمارها، بالمسرّة والسلوان، دون أن تطمع في سلطة، ولا مال، وذهبت كما جاءت كريمةً وخيّرة. كان الطابور العراقي، الذي تعلّقت فيه مثل خيط مبتور، طويلاً وحيوياً. الشاب الذي كان إلى جانبي قال: إن هذا الحشد على قدر عالٍ من الحيوية والغبطة. على غير عادة العراقي المغترب حين ينفرد بنفسه أو بعائلته. هل يحصل هذا نتيجة التقاء العراقيين ببعض. قلت له: لا أعتقد، يحدث أن يزدحم في محل حلاقة أكثر من عراقي، فلا تراهم في انتظارهم الطويل يحدثون بعضاً. في هذا الطابور الانتخابي هواء مختل، يشعر العراقيون فيه بأنهم كيانات حرّة. أمرٌ يحدث لهم على حين غرة، حتى في أيامهم المتأخرة بعد التحرير، لا يستطيع أحدٌ أن يزعم بأنه قد انتُزع كليةً من قبضة الجلاد، وعبودية سلطة البعث. العراقيُّ بكلّ لحمه ودمه قد أُلحق عنوةً ببالونة الفكرة المجردة: «الثورة»، «القائد»، «القومية»، وحتى «الخيانة»، ظل على هذه الحال قرابة نصف قرن، فقدَ الهويةَ الإنسانية، وأُلبس رداء المُعتقَل برقم محسوب. في الثمانينيات زارني أخي الكبير في لندن. كتلةٌ ناشفة من الحذَر والخوف. مرةً سألني عن إمكانية الحصول على جريدة عربية في السوق، أيّ جريدة؟ فهو لم يشم رائحةَ جريدةٍ «طبيعيةٍ» من زمن، فأخبرته عن محل لبيع الصحف العربية في ركن غير بعيد، وحين عاد لي عصراً، كان يتأبط جريدة «القادسية» العراقية، التي كان يشرف عليها عُدي صدام حسين. فدُهشت صارخاً: معقول! ولكنه ما إن استقر على الكرسي، حتى رمى «القادسية» جانباً، بعد أن انتزع من داخلها جريدة «النهار» على ما أذكر. وهو يخاطبني ناصحاً بأن الحيطان لها عيون وآذان. أخي الكبير لم يعدْ أخي بدمه ولحمه، كان ذكرى ذابلة لكيان مُقتَلعٍ من إنسانيته.

Ad

الشاب إلى جانبي انتابته رعشةٌ على الأثر. كنت أعرف أنها رعشة من يرى مشهداً سينمائياً مثيراً للذعر. فهو قد جاء هذا البلد صغيراً، ربما، وربما ولد فيه آمناً، ولذا عاجلتُه، لكي أُخفي علّةَ الرعشة الخاطفة، بسؤالي إذا ما كان يشعر بالبرد. قال نعم، فهو لم يلبسْ كفاية.

لم أسأله من ستنتخب؟ ولم يسألني هو الآخر، فكلانا حرٌّ، يحترم حريةَ الآخر بالضرورة.